أحلام اليقظة عند الصحافيين، مضحكة. كلها مهنية؛ لكن مثل أحلام الجميع، معرضة أحياناً للفشل، أو لأن تتحول إلى كوابيس. حلمت مرة بالسفر إلى جنوب أفريقيا، لحظة تتحرر من الظلم الأبيض. أو ما سماه المستعمرون الهولنديون «الأبرتايد». وما إن أخذ وجه نيلسون مانديلا يضيء ظلام العالم، حتى أخذت أعد لرحلة. ترددت، ثم ألغيت لكثرة ما سمعت عن حالة الأمن في البلاد. أردت أن أبقي على بلاد مانديلا في نفسي كحلم شاعري، وآخر انتصار على الظلم الأبيض، لا أن أرى إخفاقها في الانتصار على الذات أيضاً.
وعندما أصبح من المحتمل أن يتغير القمع في العراق، ولم يعد ممنوعاً أن ترمي الصحيفة جانباً لأن فيها اسم السيد الرئيس، بدأت آمل في السفر إلى بغداد، لا لكي أشاهد دجلة، فمن الممكن رؤيته في كتب الجغرافيا. ولكن من أجل أن أرى طيبة العراقيين في ديارهم. وشجعني على السفر وصول المراسلين من كل مكان. وخصوصاً البيروفي حامل نوبل، ماريو فارغاس يوسا، الذي كتب في «الموند» سلسلة من ثلاث مقالات، عن الولادة الجديدة لبلاد النهرين.
وإذا كان قد خامرني أي شعور بالتردد أو التحسب، فقد زال مع مجيء إياد علاوي رئيساً للوزراء؛ لكن أحلام اليقظة قصيرة دائماً، فما لبث الدكتور نوري المالكي أن أطل بكل هيبته، وانتهت أحلام كثيرة في العراق، لا يقاس بها حلمي الصغير.
ولم أعقد النية على زيارة ليبيا إذا ما انتهت ثورة الجرذان في الزنقات بزوال الجماهيرية العظمى؛ بل عقدت العزم أيضاً. فقد كان لي فيها أصدقاء وأحباء وذكريات جميلة وطيبة؛ لكن ليبيا خذلت الأحلام الشخصية والمهنية والقومية على السواء. وبدل أن تبحث عن نفسها بعد الغيبوبة الطويلة، راح يتقاتل على خلاصها مَن كان بعضهم أسوأ من السابقين.
مهما كانت الرغبة المهنية عميقة، فلا أستطيع الذهاب إلى بلاد بلا قانون. وبقيت طويلاً أحلم بعودة القانون إلى بغداد؛ لكي أذهب إلى مكتبات شارع المتنبي، واثقاً بأنني سوف أجد فيها أهم الكتب؛ لأن العراقيين أهم القراء في عالم عربي اشتهر بأن كتّابه أكثر من قرائه.
أتذكر قول الشاعر الجنوب أفريقي مونغاني والي سيروت في السبعينات: «يجب على السود أن يتعلموا كيف يحكون، وعلى البيض كيف يصغون!»، يجب على العرب أن يتعلموا كيف يقرأون. إن ثلاثة أرباع العلل والآفات والآثام التي يرونها حولهم، سببها الرفض: رفض القراءة، ورفض العلم، ورفض الآخر، ورفض المعرفة، ورفض الحقائق، ورفض الحياة.
الشرق الأوسط اللندنية