ماذا بعد قرار الجمعية العامة بشأن القدس، هل وعَت الولايات المتحدة قراءة المشهد العالمي الواضح تجاهها، ام إن قراءة أولى لخطابات مندوبي الولايات المتحدة واسرائيل، كانت كافية لمعرفة حجم الاحترام الذي تحظى به قرارات الشرعية الدولية عند هؤلاء؟
لقد أكد العالم من جديد خطورة الخطوات ذات الاتجاه الواحد تجاه المدينة المقدسة. كان واضحا أن العالم كلّه، باستثناء تسع دول، لا توافق على هذه المقامرة، ولا توافق على رهن مستقبل المنطقة بأسرها مقابل تطرّف ديني وانتخابي.
تتحدّث مندوبة الولايات المتحدة كما لو كانت سفيرة لدولة لا شأن لها بعملية السلام، تختصر المسألة كلها في حق الولايات المتحدة في تحديد مكان سفارتها.
هل سبق لأحد الاعتراض على تحديد مكان سفارة الولايات المتحدة في الصين مثلا أو في روسيا أو في كندا؟ كيف يمكن لدولة ذات حضور عالمي طاغي، أن تستغبي العالم كلّه بحجج ساذجة لا تنطلي على أحد؟ كيف تسمح الولايات المتحدة لنفسها أن تهدد الدول التي تتوقع تصويتها على قرار بإدانة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. هذه بلطجة دبلوماسية ومنحنى خطير في اتجاه الدبلوماسية الأمريكية التي بقيت طيلة تاريخها تحاول إقناع العالم بأنها وسيطا نزيها لعملية السلام.
في ثنايا تاريخ الدبلوماسية الأمريكية، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض " الفيتو " اثنتين وأربعين مرة لصالح اسرائيل. هذا بيان واضح لكل أولئك الذين ما زالوا ينتظروا الدبس من النمس. هذا انحياز سافر لصالح طرف دون آخر، ورسالة بيّنة أن كلّ ما تسمعه عن العدالة وحقوق الإنسان وقيادة عملية السلام هو محض بيانات على ورق، وأن المنطق الدبلوماسي الامريكي يوافق على استخدام القوة واغتصاب الحقوق نقيضا لكل ما قرأناه وسمعناه عن المثل الأمريكية العليا.
قالت السفيرة هيلي مندوبة الولايات المتحدة في الامم المتحدة على حسابها في تويتر أنها سترصد أسماء الدول التي ستصوت لصالح القرار المقترح في الجمعية العامة وتذكّر هذه الدول بأنها تطلب دائما مساعدات، وهذا تهديد مباشر باستخدام أكياس الطحين التي تغمر بها الدول الفقيرة، سلاحا في وجه العالم، هذا استخدام غير لائق لعصىً طويلة مؤذية مقابل جزرة هزيلة رديئة.
وتضيف السفيرة هيلي، أنه ليس من حق الدول التي تطلب المعونات أن تتدخل في اختيار موقع سفارتنا، أيٌّ صلافة هذه! كما لو كانت تتحدث عن سفارتها في البيرو وليس عن القدس التي تعرف أكثر من غيرها أن لها خصوصية خطيرة بأكثر من وصف، ليس آخرها احتضانها للمقدسات الدينية، أيٌّ انحياز مريب تصفق به الولايات المتحدة وجه العالم، إلى أين تأخذنا هذه المقامرة وهذه الانانية المفرطة، أي معنى لتأكيد السيد ترمب التزام إدارته "القوي بتسهيل التوصل إلى اتفاق دائم للسلام"، وهو يُذخّر بقراره كل أسلحة القلق والفتنة والعنف، والأخطر من قراره هذا هو ربط موافقته على حل الدولتين بموافقة اسرائيل التي ترفض الاعتراف بدولة فلسطينية بناءً على قرارات الشرعية الدولية!
من المؤكد أن استمرار السقطات الدبلوماسية الأمريكية سيسهم بشكل كبير في تهديد الامن في المنطقة، وسيوضح للعالم كله أن الولايات المتحدة آخذة في التخلّي عن دورها في عملية السلام المتعثرة أصلا قبل هذه العاصفة.
على العقلاء في بلد الديمقراطية والراشدون فيها أن لا يقبلوا أبدا بالمقامرة الطائشة بمستقبل الولايات المتحدة ولا بدورها العالمي مقابل إرضاء اللوبي الصهيوني ولا الجماعات الإنجيلية وأن لا يقبلوا بالرهان على مبادىء الولايات المتحده التاريخية مقابل حماقات انتخابية لا أكثر و لا اقل.