ذات مرة، قلت لمعماري صديق مهتم، ان عمان هي العاصمة العربية الوحيدة، التي يمكن قول حكايتها العمرانية والاجتماعية والثقافية كاملة، بشكل موثق وموثوق . فأعجبه القول، بعد الشرح، حد الدهشة. غير اني لم اجرؤ على القول بامكانية المحافظة على هذا التاريخ والنسيج.عمانيات كثر، وعمانيون اكثر، يتصلون بي، حين يهدم بيت او بناء في المدينة القديمة، ولا املك بعدها، سوى الذهاب الى المكان ليلا، واسترجع حسرة المكان وذاكرته.
قبل ثلاثة اعوام، ازعجت واثقلت، على الكثير من الامراء والاصدقاء والمسؤولين. بدءاً من الديوان الملكي وصولاً الى رئاسة الوزراء، ومروراً بالروابط والنقابات المهنية والثقافية. ولم يتردد احد في محاولة لمنع هدم واحد من اقدم ابنية عمان. نجحنا مؤقتا، بتدخل امين عمان، آنذاك. وبعد ستة اشهر، تم هدم البناء، اما صاحب البناء، فقد استبدل العمران القديم، ببناء جامد، لا يحمل اية ملامح. اضاف طابقاً ونصف الطابق، وكسب ايجارات جديدة، وهو ما كان يملكه اصلاً بقرار من المحكمة لاخلاء المستأجرين.
كان يمكن للرجل، ان يحصل مادياً على اكثر مما حصل عليه بالهدم والبناء. وذلك بالمحافظة على واجهات البناء القديم الخارجية، واضافة طوابق جديدة، باستحداث اعمدة وقواعد جديدة، داعمة للبناء، وتغيير كل ما يريده داخل البناء، والحصول ايضاً على تسهيلات ومساعدات من اكثر من جهة رسمية، لو توافرت المناخات الملائمة والثقافة الراغبة في الحفاظ على عمران المدينة.
منذ سنوات قليلة، تكاثرت الهيئات والجمعيات المستحدثة، المتشبثة بعمران عمان، لاغراض تجارية واغراض اخرى. لم اكتشف عددها الكبير الا يوم محاولة منع هدم مقهى حمدان او الجامعة العربية . يومها، دفعني الاصدقاء لتأسيس جمعية للحفاظ على هذا العمران، فجمعت اكثر من مئتي توقيع، وحين اكتشفت عدد الجمعيات الموجودة، طويت اوراقي لأزمان اخرى، وصرت على يقين انها لن تأتي.
منذ عقود، وانا اتابع بالتفصيل مشاريع الحفاظ على عمران المدن العربية القديمة. ففي مصر، وصل مشروع القاهرة التاريخية الى حد الجريمة. وفي حلب صارت مفردات حلب القديمة مدافن لعمرانها. واكتمل الخراب المنظم بهدم سوق المناخلية وسوق العتيق وجوارهما في دمشق، ومن فيض الكلام، او لا لزومه ، التذكير بخرابات بغداد وجسرها و متنبيها ومقامات سامرائها .
اما عمران شرق حواضر العرب : في القدس، وعكا، وغزة، والكرمل، وريفها، فكأن الحديث عن احواله رقص في عتمة لا آخر لها.
يقال، ان وزارة السياحة ستأخذ مبنى المكتبة العامة لأمانة عمان، ومقر منطقة المدينة، ولا اعرف كيف تفرط الامانة بأقدم مقراتها الباقية، حتى لو كان ذلك لوزارة السياحة. فمحيط هذا المبنى كان جواراً لكل مراكز الحكم (التي هدمت طبعاً) في البلاد: الديوان الاميري،فندق فيلادلفيا، المدرسة العسبلية، مبنى البريد، وبيت سليمان البلبيسي، المقام في القرن التاسع عشر، والتي ما تزال اطلالة قائمة الى اليوم.
ويقال ايضاً، ان دارة الملك عبدالله الثاني للمثقفين ستقام مكان شركة الدخان في رأس العين. ولا اظن ان احداً يفكر بالابقاء على المبنى القديم، او على جزء منه. وهو ممكن ومرجو ومفيد، اياً كان شكل العمران الجديد المنوي اقامته.
فابريكة الدخان هكذا سماها العمّانيون، عند بنائها عام 1934. كانت البلدية تستعد للتوسع ابعد من شارع السلط، حين اجبرت شركة الدخان (كان مقرها في بناء شريم - شارع فيصل) على اختيار مكان بعيد على حدود المدينة. فخيرت الشركة البلدية بين ثلاثة مواقع تملك فيها اراض: رأس العين، جسر مصدار عيشة، طريق المحطة. فاختارت البلدية هذا الموقع، واحتفظت الشركة لاحقاً بأبنية لها في المواقع المذكورة. وتحول واحد منها الى مقر الجمعية الخيرية الهاشمية في المحطة، وقد سقطت نقوش البناء العربية والانجليزية على بوابته، قبل شتائين او اكثر، ولا اعرف اذا اعيدت ام لا.
الشركة المؤسسة لهذا العمران هي كرمان وديك وسلطي ليمتد . ولأسماء كرمان و ديك و سلطي حكايات طويلة ومثيرة وعتيقة، تمتد من حيفا الى بيروت الى عمان الى لندن.
فهل نحن معنيون بظلال هذا العمران وحكاياته وتاريخه؟ .. وللحديث صلات مشروخة.
FAFIEH@YAHOO.COM