الشارع والحكومة والبرلمان
د. رلى الفرا الحروب
25-02-2009 12:08 AM
الحالة الشعبية في الشارع الأردني تدعو للتأمل.
جرت العادة أن تحظى التعديلات الحكومية بكثير من الاهتمام على مستوى النخب وحتى الشارع العادي غير المسيس، وإن كنت أشك في صلاحية هذا التعبير لوصف الحالة الأردنية لأن جميع من قابلتهم بدءا من الفلاحة في القرية وحتى عامل النظافة في الأمانة والمراسل في الجامعة يتعاطون في الشأن السياسي، وجرت العادة أن تدور الأحاديث حول هوية الداخلين والخارجين بكثير من الاهتمام حتى أن النقاش كان يحتدم أحيانا ليصل إلى خانات الدفاع أو الهجوم عن هذا أو ذاك إما من باب المعرفة الشخصية أو الحمية العشائرية أو المنطق السياسي، ولكن التعديل هذه المرة تمخض عن ولد ميت، على الأقل بالنسبة للأردنيين الذين حاورتهم في مواقع عدة في الجامعة والمستشفى والتاكسي والحي وفي الوسط الإعلامي وعلى نطاق عائلي، وهم بالمناسبة من شتى الأصول والمنابت ومن مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، مما يصلح لأن يمثل عينة استكشافية قد لا تكون عشوائية أو ممثلة ولكنها تلقي بصيصا من الضوء على بعض مما يعتمل في أذهان الاردنيين.
التعديل الذي طال انتظاره منذ نوفمبر الماضي جاء باهتا إلى حد أن الشارع انقسم إلى قسمين: قسم لم يجد فيه ما يبحث عنه ويطمئنه إلى المستقبل : مستقبله الشخصي ومستقبل الوطن فأصيب بالإحباط وامتنع عن التعليق بعدما فقد الأمل في أي إصلاح حقيقي يمكن أن يطرأ على مواقع صنع القرار في السلطة التنفيذية، وقسم آخر أغضبه التعديل إلى حد أنه استل لسانه أو قلمه أو لوحة مفاتيحه وصب جام غضبه على الحكومة ورئيسها عبر المواقع الالكترونية والصالونات السياسية وغيرها من مواقع التجمعات الحية او الوهمية.
القسم الأول معظمه ينتمي إلى ذلك الشارع العادي المغلوب على أمره الذي يحلو للبعض وصفه بغير المسيس، أما القسم الثاني فينتمي معظمه إلى ذلك الشارع النخبوي الملم بحقائق الأمور والمطلع على الخفايا والذي كان يتأمل خيرا بعدما طال أمد المخاض ليفاجأ بأن بعض من كان يفترض بهم مغادرة مواقعهم لم يغادروها، وأن آخرين ممن استبدلوا أسلافهم ليسوا بأفضل منهم بعدما جرب معظمهم في مواقع سابقة وفشلوا فيها، وأن غيرهم تمت مناقلتهم كأحجار الشطرنج على غرار مناقلات المعلمين ورؤساء الجامعات مؤخرا، والأهم من ذلك كله أن الهدف من ذلك التعديل غاب عن الخارطة، فمؤهلات الوزراء الجدد والقدماء واتجاهاتهم السياسية والفكرية ترسم فسيفساء ولكنها غير متناسقة ولا تعبر عن أي وجهة محددة للحكومة المعدلة ولا عن تغيير جوهري في الرؤية أو الاستراتيجيات أو حتى التكتيكات، بل إن بعض الأسماء صدمنا وجودها في مثل هذه الحكومة التي لا يمكن منحها سمة واضحة المعالم بعدما تداخل فيها الحرس القديم مع الجديد والليبرالية مع المحافظة والتكنوقراط مع البزنس والعشائرية مع الوراثة وتم إقحام بعض الأسماء كمكافآت شخصية على مواقف سابقة في معركة ولاية الحكومة الشهيرة وإقحام أخرى متنافرة فكريا من باب التجميل أو الاختيار العشائري المفروض في اللحظة الأخيرة.
الصورة ذاتها تتكرر مع مجلس النواب، فكل ذلك التذمر من أداء المجلس على صفحات الصحف وشاشات التلفزة وفي المواقع الالكترونية ومجالس الأردنيين، وما رافقه من حالة يأس وإحباط طبعت مشاعر الكثيرين في الشارع إلى حد أنها تنبئ بانخفاض مقبل في نسبة الاقتراع في أي انتخابات قادمة يعبر بوضوح عن ان الشارع بشقيه النخبة والقاعدة غير راض عن أداء السلطتين التشريعية والتنفيذية خاصة بعدما قام بينهما ما يشبه الحلف التكتيكي المستند إلى أسس من المنافع المتبادلة بعدما تراجعت مصلحة الوطن لتحتل المرتبة الأخيرة في حيز التفكير والسلوك.
إذا كان الشارع غير راض عن الحكومة والبرلمان ، وإذا كان كثير الشكوى والتذمر من طول إجراءات التقاضي وتعقيدها وتغول السلطات على بعضها بعضا في كثير من الحالات، فماذا تبقى لنا من اركان الدولة إذاٌ ً ؟!
لقد وصل الأردنيون إلى حالة من الإحباط تولدت عنها حالات من الغضب لدى النخبة واليأس لدى الشارع تجاه حكوماتهم ومجالس أمتهم بعدما باتت لديهم قناعة أكيدة أن ليس في هذا البلد من يعمل سوى جلالة الملك وأنه لولا الملك لآل حال الدولة إلى الخراب بعدما تمكنت منها مجموعة من العلل بدءا من سيطرة البزنس على السياسة وهيمنة رجال الأعمال على مفاصل القرار، وانتهاء بإعادة إحكام الفكر الأسري والعشائري والجهوي والإقليمي والنفعي قبضته على الدولة، حتى استحال الفساد إلى مؤسسة فوق المؤسسات لا ينقصها إلا وزير عامل يهيكلها ويخرجها من حيز الخفاء إلى العلن!!
الأردنيون اليوم في أسوأ أوضاعهم بعدما فقد كثير منهم مدخراتهم أو"تحويشة عمرهم" في أزمة شركات البورصة العالمية التي أودت بأموالهم ومستقبلهم في أكبر عملية نصب واحتيال عرفها الأردن في ظل غياب الإشراف الحكومي والقوانين الصارمة وهدوء الحكومة المدهش بعدما توصلت إلى دفاع متين لا يمكن دحضه يستند إلى المقولة الشهيرة " القانون لا يحمي المغفلين"، والاقتصاد العالمي يسير من سيء إلى أسوأ وهو ما ينذر بانعكاسات محلية خطيرة بعدما انخفضت عائدات الدولة من مصادر عدة على رأسها ضريبة المبيعات ودائرة الأراضي اللتان تأثرتا بعجز المواطن عن الشراء وعجز التاجر والمقاول عن البيع والإنشاء، وانخفاض عوائد الجمارك بحكم توقيعنا اتفاقيات للتجارة الحرة والتزامنا مع منظمة الجات وانخراطنا في مقتضيات العولمة والتبادلات العربية البينية، أما الشبح الأخطر فهو احتمالية عودة آلاف الأردنيين من الخليج بعدما بدأت كبرى الشركات هناك تقلص ميزانياتها جراء الأزمة المالية العالمية وسلسلة الانهيارات التي شهدتها بورصات الخليج التي تراجع بعضها بنسبة الثلث والتي تسبب بعضها الآخر في إفلاس تجار كبار والقضاء على أحلام مضاربين صغار ونقل آخرين إلى غرف العناية المركزة في المستشفيات.
إذا، جيب المواطن مثقوب بعدما تآكلت مدخراته وزادت ديونه وأعباؤه وبات المصروف أعظم من المدخول، وجيب الحكومة مثقوب أيضا بعدما تآكلت مصادر دخلها، ولكن ميزانيتها تواصل التضخم مع ذلك من عام إلى عام تماما كالمواطن، والملاحق باتت جزءا لا يتجزأ من سنة غير حميدة تهرب بها الحكومات من المساءلة البرلمانية في ظل تفاقم النفقات الرأسمالية والجارية ، وتراجع الخدمات، واستمرارية الخلل الميزان التجاري ، وتأرجح سعر صرف الدينار أمام العملات الأخرى غير الدولار وارتفاع أسعار الفائدة على الودائع والقروض.
أما البنوك فقد توقفت عن الإقراض، وأما المقاولون والتجار فقد توقفوا عن الاقتراض وإقامة المشاريع، وأما الضمان الاجتماعي فمهدد بالوصول إلى نقطة التعادل ثم الانحدار نحو العجز خلال سنوات معدودات، وأما الخدمات الصحية والتعليمية فمن سيء إلى أسوأ، ومع ذلك كله، فنحن في أحسن حال، ولا ينقصنا إلا حكومات تأتي وتروح ولا نعلم لماذا جاءت أو لماذا راحت!!!
الأخطر من ذلك كله أننا نواجه مآزق خارجية كبرى، فمن نتنياهو وحكومته اليمينية المقبلة التي تهدد بتجميد أحلام السلام مع العرب ونسف مشروع الدولة الفلسطينية، إلى احتدام الصراع بين إيران ودول الخليج العربي خاصة بعد تصريحات غير مسؤولة تتعلق بالبحرين وهو ما ينذر بتطورات مقلقة في ظل وجود حكومة إسرائيلية يمينية واحتمالية اتحاد عربي- إسرائيلي خفي في مواجهة إيران قد يتطور إلى مواجهة عسكرية، إلى تطور الأزمة في الباكستان وأفغانستان بما ينم عن صراعات حادة مقبلة وتدخلات لا تعلم نتائجها قد تخلخل الأمن في الإقليم بأسوأ مما فعله احتلال العراق، كل ذلك، وما زلنا عاجزين عن إجراء إصلاحات حقيقية تأتي بأصلاء لا بدلاء.
لسنا متشائمين ولكننا ننبه إلى الصورة التي يراها الشارع والفجوة التي تزداد اتساعا بين ثقته في القيادة الهاشمية التي لم تخذله وثقته فيمن يديرون أمور الدولة في المؤسسات التشريعية والتنفيذية ممن يتراجع أداؤهم حينا ويتخبط حينا ويتجمد أحيانا.
إن استمر هذا الحال فإننا لا نستبعد أبدا أن يقوم القائد بجراحات عدة في الصيف المقبل قد تعيد تشكيل الخارطة الحكومية والبرلمانية معا، فمؤسسة القصر هي المؤسسة الوحيدة التي ما زالت تمتلك قرون استشعار ومجسات دقيقة تمكنها من قراءة المزاج الشعبي والاستجابة له بأسرع مما تفعله المؤسسات الأخرى، ولطالما استبقت خطواتها البقية وأجبرتها على اللهاث من خلفها، ومن يدري فقد يحصل الأردنيون أخيرا على ما يريدون: حياة حزبية فاعلة وبرلمان قوي وحكومات سياسية مستبصرة تحسن التعامل مع الشارع والمتغيرات الخارجية والداخلية سواء بسواء وتستكمل مسيرة التنمية كما يريدها القائد ويتطلع إليها الشعب ويصبو إليها الوطن.
الانباط.