صناعة السينما في فلسطين (الواقع والتحدّيات)
د. تيسير المشارقة
17-12-2017 10:03 AM
الصناعة السينمائية في فلسطين مثل بقية الصناعات الأخرى تنمو وتتطور في ظل ظروف صعبة، أصعبها احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية وسيطرتها على كل مُناخات العمل. لكن "صناعة السينما" هي أقرب إلى صناعة الأفكار كمنتج أول بأدوات إنتاج صناعية مستوردة في الغالب، نظراً لافتقار فلسطين لإمكانات إنتاج أدوات صناعة الأفلام أياً كان شكل هذه الأفلام وقالبها الفني، روائية أو تجريبية أو وثائقية وتسجيلية أو سينما تحريكية. ونظراً لتخلّف أدوات الإنتاج السينمائي وعدم قدرة الفلسطينيين على تصنيعها وطنياً فإن إنتاج سينما حقيقية صعب نسبياً. فمن لا يملك الأدوات ولا يصنعها، ويتعذّر عليه إنتاج أفلام ناضجة.
الافتراض السابق قريب من افتراض آخر، وهو أن من لا يمتلك صناعات إلكترونية قوية لا يستطيع بناء مجتمع معلوماتي حقيقي. لهذا، والفلسطينيون يحاولون صنع سينماهم التي هي "تعبير ما" عن واقعهم وحياتهم ومجتمعهم، يكتشفون أن هذه السينما مرآة للمجتمع والواقع المُعاش. ويتأكدون كم هو فقير عالمهم وساذج ومؤلم ومُحْبَط وسوريالي أحياناً. لكن هذا الواقع المأساوي لم يعفِ المكافحين السينمائيين من استخدام السينما من أجل التغلب الواقع من أجل التغيير والتطوير والتحديث والحرية والعدالة والأمل في الحياة والمستقبل ..
نضيف إلى ما سبق، وتأكيداً لذلك، أن الواقع القانوني الفلسطيني الحديث غير مؤهل جيداً، من ناحية الأنظمة والقواعد والقوانين الحمائية، لحماية عملية الانتاج السينمائي، وصون الحقوق المرافقة. فالقوانين الفلسطينية لم تلتفت بعد للصناعة السينمائية باعتبارها أحد مكوّنات الاقتصاد الوطني. فالاتفاقيات والشروط لتصنيع للأفكار وكتابة السيناريوهات والقصص السينمائية وحقوق الترجمة والاقتباس وحقوق الممثلين والمخرجين والمنتجين غير مستندة (حتى الآن)إلى أنظمة وقوانين رائجة أو معروفة، وإنما تستند إلى عادات وتقاليد غير مقوننة..
معوّق آخر لا بد من الإشارة إليه، عندما نتحدّث عن واقع صناعة السينما في فلسطين، وهو رديف للبنية التحتية وموازٍ لها، أن آليات صنع القصص والأفكار الإبداعية مُتعثرةٌ ومقرونة بواقع القيم المحافظة في المجتمع الفلسطيني وشرط التديّن، ونلحظ أن كثير من أدوات القمع الإسرائيلي، وهناك شبيه لها عند السلطة الوطنية الفلسطينية، تعاقب على صناعة الأفكار قبل تطبيقها على الواقع. وطالما الحرية شرط للإبداع، فإن تعثر الحرية في فلسطين يعيق الكثير من العمليات الإبداعية. لهذا، فإن البنية الفوقية (الفكرية) تتعطّل وترتطم بصخرة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتأخر والمربَك فلسطينياً بفعل عوامل ذاتية و موضوعية قاهرة...
تفسيراً ومثالاً لما أوردناه أعلاه، فإن الارتباك الأخلاقي عند المخرجة نجوى نجار في فيلمها الروائي الطويل" المر والرمان" جعلها تسقط في "فوبيا إنتاجية"، عندما أصيبت ب. "عقدة إيرلندية" سائدة. فقد باتت تخشى على قدميها أو ركبها من رصاصات مفاجئة لأنها تطرقت لواقع المرأة الفلسطينية التي يعيش زوجها في المعتقلات الإسرائيلية. أعتقد أنها صارت الرقيب على ذاتها وقامت أكثر من مرة بتوليف فيلمها من خلال القطع المتكرر لكي يوائم الذهنية العربية والفلسطينيين. وربما لا تزال المخرجة نجار تحتفظ بنسخة خاصة من فيلمها الخلافيّ للأوروبيين دون قص أو تعشيب أو تشذيب. فالهجوم على "فكرة" الفيلم من قبل قوى محافظة فلسطينية والتعاون الإسرائيلي "القصدي" مع تلك القوى، سيدفع المخرجة إلى التراجع وربما إلى صياغة أفكار سينمائية محافظة أو عادية في المستقبل، وبالتالي إسقاط الإبداعية والعمق عن السينما الفلسطينية الوطنية .
ولأن الصناعة السينمائية قائمة على التدريب والعلم والمال، فإن الدورات التدريبة المتواضعة في كتابة السيناريو والإخراج والدورات البدائية في التمثيل غير كافية للتأهيل ولنمو صناعة سينمائية فلسطينية حقيقية. فالمعيقات الإسرائيلية والذاتية (الوطنية)الواقعة على بنية التعليم الفلسطيني تَحول دون تعليم مهارات أداء وإبداع أفكار محلّقة في السماء دون قيود. فالحراك التعليمي والتدريب في مجالات وحقول الصناعة السينمائية المتعددة غير كافٍ لتنشيط العمل السينمائي ..
الصناعة السينمائية الفلسطينية الكبرى لا يمكنها أن تنهض بجهود فردانية وشخصية دائماً، وإنما تحتاج أيضاً لرعاية وطنية من قبل رأس المال الوطني ورعاية حكومية فلسطينية أو رعاية من لدن صانع القرار الوطني. فكبار المخرجين الفلسطينيين في الداخل وداخل الداخل(48) عملوا مع جهات تمويلة عالمية أو أوروبية للنهوض بأفلامهم وتحقيق أفلامهم السينمائية. ميشيل خليفي و إيليا سليمان وهاني أبو أسعد ورشيد مشهراوي ما قدّر لهم كمخرجين من صناعة أفلامهم الروائية المعروفة منذ مطلع ثمانينات القرن العشرين لولا إسناد مالي ولوجستي كبير من بعض الدول الأوروبية. ولجأ بعض المخرجين لتمويل إسرائيلي باعتبارهم مخرجين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويدفعون الضرائب لخزينتها. واستفاد مخرجون فلسطينيون يعيشون داخل "إسرائيل" من إسناد معنوي ومالي فلسطيني من السلطة الفلسطينية ووزارة الثقافة الفلسطينية باعتبارهم امتداد قومي ووطني وكياني ..
مُرْبِكات الصناعة السينمائية الفلسطينية كثيرة، لكنها صناعة ناشئة وصاعدة ومفكّرة. فهي تطرح أسئلة وجودية وإنسانية هائلة.. ولهذا، فإن الاهتمام بكل مخرجات هذه الصناعة كبير. وتلقى الأفلام الفلسطينية الروائية والوثائقية رواجاً منقطع النظير في العالم أجمع. ليس لأنها سينما نضالية، ووجودية فحسب، بل كونها سينما تعبيرية تفسّر واقع المجتمع الفلسطيني وتتحدث عن حياة الناس الصامدين على أرض وطنهم، بالرغم من كل عمليات الطمس والترحيل والقتل والتشريد والإحلال والحصار التي يقوم بها الخصم الإسرائيلي. ..
لقد ساهمت الثورة الرقمية(الديجيتال) وكاميرات التصوير عالية الجودة (هاي ديفينيشن) إلى التحاق الكثيرين من الفلسطينيين ومنهم ربات البيوت والنساء عموماً والشباب وكثير من الهواة وعشاق السينما، بركب صناعة الأفلام الرقمية غير المكلفة، وذات الطابع التسجيلي والوثائقي. لهذا نلحظ مؤسسات كثيرة بدأت تظهر لتنظيم وتطوير هذه "الظاهرة الصناعية الفيلمية" الفلسطينية ورعاية الناشطين في هذا الحقل ومن تلك المؤسسات "مؤسسة القطان" و "مؤسسة شاشات" وصارت بعض المؤسسات الثقافية والمراكز الفنية تخصص من ميزانياتها حصة لرعاية الأفلام التسجيلية والوثائقية والترويج لتلك الأفلام. هذا النشاط على المستوى الوثائقي . التسجيلي رافقه أنشطة أخرى لصناعة أفلام روائية ولكنها ما زالت بدائية وغير ناضجة بسبب الإمكانات والمعيقات المتعددة موضوعياً وذاتياً ..
يمكن ملاحظة ظاهرة فريدة فلسطينياً وهي "عملية استبدالية تعويضية" عندما بات الفيلم الوثائقي التسجيلي يقترب بمواصفاته الفنية من الروائي الدرامي، حين أدخل الفلسطينيون بعض العناصر الدرامية في وثائقياتهم وأخص بالذكر تجربة المخرج خليل المزين من غزة، فهو الدارس لفن السينما في روسيا أو أوروبا الشرقية وقد وظّف نظرياته الدرامية في التوثيق البصري بشكل رائع. هذا الأمر ليس بغريب، فتعذر الإمكانات الروائية، يجعل الوثائقيين والتسجيليين يوظفون الدراما في أفلامهم لجعلها أقرب إلى الواقعية الروائية. وعلى الجانب الآخر، قام روائيون بالاقتراب من التسجيلية والوثائقية في أفلامهم الروائية لجعلها قريبة من "الوثيقة" أو "الكوشان" ، ومثال ذلك فيلم "سجل اختفاء" للمخرج إيليا سليمان ..
الاختلاط بين الأجناس الفنية قد يولّد سينما فلسطينية جديدة هجينة (روائوثائقية) أو (تسجيلروائية) وساهمت ظروف الاحتلال الإسرائيلي وقمع الحريات من عمليات التعجيل في الدفع باتجاه سينما فلسطينية أقرب إلى التجريبية الدكيودرامية. لكن هذا لا يعفي من ضرورة الانتباه إلى أن بالسينما يفسر المجتمع الفلسطيني نفسه وإذا أردنا أن نؤكد على صيرورة هذا المجتمع والتحولات القائمة فيه لا بد من تعبيرات كيانية سينمائية واضحة المعالم وثرية وحرة وإبداعية ومستمرة ومتواصلة مع مسيرة المجتمع الناهض من الدمار كالعنقاء.