يراهن الكثيرون في العالم العربي على تطور وتصاعد الاحتجاجات الشعبية في فلسطين وصولا إلى حالة دائمة من المواجهة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، بمعنى آخر انتفاضة فلسطينية "ثالثة"، تفرض وقائع جديدة في الميدان وتعيد للقضية مجدها.
في مثل هذا التاريخ قبل 17 سنة اندلعت مظاهرات عارمة في فلسطين كانت شرارتها زيارة رئيس وزراء إسرائيل الأسبق أرئيل شارون إلى المسجد الأقصى. ولهذا السبب حملت اسم "انتفاضة الأقصى". استمرت الانتفاضة قرابة خمس سنوات سقط فيها ما يزيد على أربعة آلاف شهيد فلسطيني.
منذ ذلك التاريخ شهدت الأوضاع في الأراضي المحتلة تحولات جوهرية على جميع المستويات. محمود عباس كان قد تولى السلطة حديثا، واندفع برغبة للتسوية السلمية، وعلى هذه الخلفية انخرطت مؤسسات السلطة بتنسيق أمني مع قوات الاحتلال. وتوالت المحاولات لتحريك عملية السلام من جديد، لكنها فشلت كلها.
إسرائيل ذهبت إلى أبعد مدى في سياسة الاستيطان وضم الأراضي وتهويد القدس، مع انحياز متزايد نحو اليمين. وهيمنت حالة من الإحباط واليأس على المزاج العام العربي والفلسطيني، خاصة بعد الانقسام السياسي والجغرافي بين شطري الوطن الفلسطيني؛ الضفة الغربية وقطاع غزة، واحتراب أكبر فصيلين فلسطينيين؛ فتح وحماس.
سنوات الربيع العربي وثورات الشعوب، لم تكن ذات معنى بالنسبة لقضية الشعب الفلسطيني، فالمسار الذي اتخذته الثورات واندلاع الحروب الأهلية في أكثر من بلد عربي، وبروز خطر الجماعات الإرهابية وتصدّرها أجندة القوى الإقليمية والدولية، دفع بالقضية الفلسطينية إلى مرتبة متأخرة من الاهتمام.
كان كل شيء يشي بموت بطيء لأعدل قضية وطنية على وجه الأرض، حتى جاء قرار ترامب الأخير بنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، ليعيد مأساة الشعب الفلسطيني إلى الواجهة.
مر أسبوعان تقريبا على القرار، شهد كل يوم فيهما مواجهات متقطعة بين الشبان الفلسطينيين وقوات الاحتلال، اشتد زخمها في يومي الجمعة الفائتين، وسقط عدد من الشهداء وعشرات الجرحى.
هل تستمر المواجهات بنفس الوتيرة وتتحول إلى انتفاضة عنوانها هذه المرة القدس؟ حركة حماس التي لها باع طويل في انتفاضات سابقة، دعت منذ اليوم الأول إلى تفجير انتفاضة واسعة في الأراضي المحتلة. لكن وبالرغم من انخراط جمهور حركتي حماس وفتح ومعظم الفصائل الفلسطينية في المواجهات، إلا انهما لم يعلنا حتى الآن عن تشكيل قيادة ميدانية موحدة على غرار ماحصل سابقا. الخلاف بين فتح وحماس يعيق تطوير آليات التنسيق، وسنوات الافتراق الطويلة ما تزال تلقي بظلالها على الطرفين.
لكن حتى لو تمكنت الفصائل الفلسطينية من تجاوز حالة الانقسام والعداء، فهي بحاجة لمزيد من الوقت لتطوير آليات تنسيق وتعاون فعالة لتعبئة الجماهير. وإذا لم تبادر سريعا إلى تنظيم صفوفها فقد يفوتها الوقت وتفتر عزيمة المحتجين قبل أن يجدوا من يقودهم ويوجههم.
في كل الأحوال، فإن أي انتفاضة جديدة لن تكون نسخة عن سابقاتها، وينبغي أن لا تكون. ليس منطقيا العودة إلى أساليب قديمة سبق أن جربت، فقد حدثت تطورات هائلة على الأرض وفي وعي الجماهير تتطلب نسقا ثوريا ينسجم معها. المهم أن تحافظ أي انتفاضة على طابعها السلمي والشعبي وتبتدع أشكالا جديدة من المقاومة الشعبية، تحظى بدعم الرأي العام العالمي وتجلب المزيد من التضامن مع قضية الشعب الفلسطيني.
الغد