قرّرت مؤسّسةٌ اجتماعية أجنبيّة وضع لوحٍ أسود فارغ على الطّريق العام، مكتوب عليه: « أكتب عن أمرٍ ندمت عليه في حياتك... «
واستجاب المارّة للطّلب، فكتبوا عباراتٍ من مثل: نادمٌ على أنّي لم أدرس إدارة الأعمال... ندمتُ على أنّي لم أتواصل مع أصدقائي القُدامى... كما كتب ثالث: نادمٌ على أنّي أضعتُ سنواتٍ طويلةً من عمري في عملٍ روتيني لا تحدٍ فيه ! أمّا العبارات المؤثّرة فكانت أنَّ أحدهم ندمَ لأنَّه لم ينجب أطفالاً قبل وفاة والده... في حين كتب آخر أنّه مشرّدٌ الآن لأنّه آذى أناساً عديدين وندِمَ على ذلك كونه يدفع الثّمن الآن !
استجابوا للطّلب الغريب بصدقٍ وتلقائيّة... ثمَّ أحببتُ أن أتخيّلَ ما يلي:
أصابت العدوى الجميلة سكّان عمّان... فعُلّق لوحٌ مماثل في منطقة استراتيجيّة داخل العاصمة ذات صباح، وتُركت طوال اليوم دون أن يقتربَ منها أحد، وهكذا إلى أن أفاق أحدُ المواطنين في فجر اليوم التّالي، ليتسلّلَ من بيته آخرَ الّليل متلفّحاً حريصاً على ألا يميّزَه أحد من الشّارع الذي يقطنُ فيه، وواصلَ السّيرَ في عزِّ البرد حتى الّلوح... وبدأ يكتب:
نادمٌ أنا على أنّي قضيتُ سنواتٍ عديدةٍ من عمري في وظيفةٍ درّت عليّ دخلاً ما، أعلمُ جيّداً أنّه كان مالاً حراماً صرفاً... إذ لا أستحقّ عُشر تلك الرّواتب التي كانت تُصرفُ لي شهريّاً، لأنّي باختصار لم أكن أعملُ بقدْرِ ما كنت فنّاناً في التّظاهر بالعمل، والطّريقة كانت غايةً في السّهولة، فقد كنتُ أكدّس ملّفاتٍ وأوراقاً كثيرة على مكتبي، ثمَّ أدورُ في الأروقة أشكو من كثرة العمل، حتى وصلَ بي الأمرُ للطّلبِ من أحد المدراء توظيفَ مساعدٍ لي !
ما كان يُطلبُ منّي، ويحتاجُ إلى ساعتين لإنجازه مثلاً، كنتُ أماطلُ وأسوّفُ في إنهائه حتى أوحي للمسؤول أنّي استشهدتُ حتى أتممتُ المهمّة... ثمَّ لأطربُ على سماعِ عباراتِ الشّكرِ والامتنانِ منه !
نادمٌ أنا على التّلاعبِ في كثيرٍ من الفواتير... صلاحيّاتي كانت تُعطيني فرصاً لذلك، وذكائي كان يُسعفني دائماً في إخفاء أيّ دليل !
وكم أندمُ على تملّقي لكلِّ مسؤولٍ جديد، وعلى مهارتي في وضعِ كلِّ من غادر منهم على « مشرحة » لأتسلّى بسيرته أمام الآخرين في جلسات غيبةٍ طويلةٍ دراميّةٍ شائقة !
ويقتلني الإحساسُ بالنّدم على رشاوى تلقيّتها على شكلِ « هدايا »... كنتُ أعلمُ وكان يعلمُ مهدوها لي أنّها لقضاء مصالحَ شخصيّة لبعضهم على حسابِ المصلحة العامّة، وكلّما كان يتململُ ضميري، كنتُ أقولُ لنفسي: « إن لم أستغل الفرصة، فسيستغلّها غيري، كما أنَّ ثمّة من « ينهب » بعشرات الآلاف... ولن تقومَ القيامة إذا انتفعتُ أنا ببضعِ مئات... رغم ذلك كلّه، ترقيّتُ في منصبي، وزادَ راتبي، كما ازدادت صلاحيّاتي إيّاها !
أنا الآن مذعورٌ ممّا تكسّبت... مذعورٌ على أبنائي وعلى نفسي، أخشى أن يعاقبني الله في صحّة أحدهم، أو في أيّ أمرٍ آخرَ لم أحسب له حساباً !
أنهى كتابته بتلك الجملة، تنفّسَ الصّعداء، وضع يدَه المتجمّدة في جيبه، وغادرَ المكان مسرعاً وقد بدأت خيوطُ الفجر تشقُّ عتمة الّليلِ البارد...
أفاقَ أهلُ عمّان في اليوم التّالي على الّلوح وقد سُطّرت عليه عبارةٌ ما، فتجهمروا حولَه والفضولُ يكادُ يقتلُهم ليقرأوا: « لتشييكِ مزارعكم... الرّجاء الاتّصال بالرّقم كذا ! «
الرأي