أفكار كثيرة تتزاحم، وسط هذا الإعصار السياسي، الذي يمسنا مباشرة ، كالضغوطات الاقتصادية والمديونية واستحقاقاتها بما في ذلك السياسية، وكل التحديات التي تواجه بلدنا ومنطقتنا وتدخل أدق تفاصيل حياتنا، بدءا من رغيف الخبز وانتهاء بحبة دواء مستوردة لمرض مزمن مرورا بارتباكات كثيرة !!...
نحن في سفينة العرب وسط هذا العباب، نتلاطم فيما بيننا، وتضربنا في ذات الوقت أعاصير قرارات رجل أعمال نرجسي، قد وصل للحكم بدعم من تيّار عنصري وديني محافظ ، وبترحيب قوي من الجماعات الصهيونية المؤيّدة للحكم المتطرّف في إسرائيل مثل الأيباك.. ربّما وجد مصلحةً كبيرة في إحداث دوي اعلامي لتغطية ارتباكه في الأزمة مع كوريا الشمالية، وإخفاقه في سوريا، ولصرف الأنظار عن مشاكله الداخلية وعن التحقيقات القانونية الجارية مع فريق حملته الانتخابية، بالإضافة الى أنه لم يحقق لناخبيه أيا من وعوده كإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، وإلغاء خطة أوباما للتأمين الصحي، وإجراء إصلاح شامل في سياسات الهجرة...الخ..
وبالتالي من خلال الأجندة الداخلية والخارجية، ودون مراعاة أبسط أبجديات السياسة الدولية المتعارف عليها، يأتي متبنيا سياسة نتنياهو بالكامل ليس فقط نقل سفارة بلده للقدس، بل في سياق قراره ينطوي أيضا على رفض حلّ الدولتين، وعلى تكثيف الاستيطان، وتهميش القضية الفلسطينية، وعلى وصم مقاومة الاحتلال بالإرهاب، والسعي لإشعال الصراعات الطائفية والمذهبية في العالم العربي والإسلامي، والحروب العسكرية .. حتى "صفقة القرن"، فانه متوقع انها ستؤجج خلافات بين العرب أنفسهم، كالتي حدثت بعد توقيع معاهدات "كامب ديفيد" في نهاية عقد السبعينات مع فارق أنه سيكون صراعا للمكتسبات وليس للمواقف المبدئية...
فكيف يمكن المراهنة من جديد على مزيد من التفاوض مع إسرائيل برعاية ذاك الجالس في البيت الابيض بدعم القوى الصهيونية والعنصريين، إذا كان نتنياهو ومعظم أعضاء حكومته يرفضون "وقف الاستيطان والانسحاب من القدس وحقّ العودة للفلسطينيين"، وهي القضايا الكبرى المعنيّة بها أي مفاوضات أو "عملية سلام" بين الطرفين!؟
ثمّ كيف يأمل الفلسطينيون والعرب بموقف أميركي فاعل إذا كانت إدارة ترامب والكونغرس الأميركي يتحدّثون عن القدس كعاصمة أبدية لإسرائيل وغالبيتهم تتعجل عودة المسيح بتداخل سياسي وعقدي لإنشاء دولة ثيوقراطية خالصة في الأرض المحتلة!! ..
وفي نفس الوقت اسرائيل ترفض بتاتا الدولة الواحدة لما ينطوي على تحملها مسؤوليات الفلسطينيين ، بالإضافة لتهديد ديمغرافيتها ، كما ترفض اقامة دولة فلسطينية بحدود 67 والقدس عاصمتها .. فلم لا يكون هناك قرار فلسطيني شجاع "عوضا أن يكون تلويحة تهديد كما ظهر في خطاب محمود عباس" ليكون إحراجا حقيقيا لإدارة ترامب و إسرائيل ، مثل حل السلطة ووقف التنسيق الأمني، وترك المسؤوليات الصحية والتعليمية وغيرها على عاتق المحتل الذي استفاد طوال السنوات وقد أراح نفسه من مسؤوليات الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 67 !؟
تساؤل مشروع في سياق براغماتية العمل السياسي بهدف إحراج المحتل في ظل الحياد الدولي المكتفي بالتنديد معنويا دون أي خطوات واقعية، وحتى الدول الإسلامية كإيران التي لها حساباتها الخاصة وتقود حروبها عن طريق وكلائها، أو تركيا التي لم تخطو أي خطوة جادة بخصوص علاقاتها الاستراتيجية مع إسرائيل على الأقل كممارسة ضغوطات سياسية لا الاكتفاء بالخطابات الشعبوية ...
إنّ إدارة ترامب تراهن على استمرار السلطة بوضعها الحالي وتحملها الأعباء وبخاصة الأمنية عن دولة الاحتلال، فذلك يريح اسرائيل... بالإضافة لاستثمار نتائج ما حدث عربيا منذ سنوات من تهميش للقضية الفلسطينية، ومن تفجير الصراعات والحروب الأهلية العربية، ومن غياب لمرجعية عربية فاعلة، ممّا يمهد التطبيع مع إسرائيل بما يُعرف باسم "المبادرة العربية" بعد تعديلات جوهرية في نصوصها دون أن ينال الفلسطينيون أيّ شيء!!.
وفي سفينتنا العربية المنهكة أيضا، يُلاحظ التقاء المصالح المتزايدة والتقارب الاستراتيجي والتعاون السري مع إسرائيل، بالتالي أصبحت بعيدة عن رأس سلم الأولويات الأمني كعدو بالنسبة للقادة العرب الذين يتقاسمون معها المخاوف فيما يخص التهديدات الإيرانية والقوى الدينية المتطرفة - رغم أنهم سبب تناميها- وعدم الاستقرار الإقليمي بحسب رؤيتهم على الرغم من أن اسرائيل أحد مسبباتها.. وما يتسرب من خلف الأبواب المغلقة اعترافهم بأن إسرائيل لا تهددهم، وأن هناك مزايا استراتيجية واقتصادية تكمن في التعاون الخفي معها، كما نلحظ أيضا في الفترة الأخيرة، انطلاق دعوات اعلامية غير مسبوقة للتطبيع، رغم أن التصريح بهذا الأمر علنا كان من التابوهات قبل فترة وجيزة جدا !!..الى درجة أننا بتنا نسمع بطروحات مثل : "الإسرائيليون والعرب معا" ، وقد غدت تتكرر دون حياء من بعض الكتاب والمشايخ الدينية المروجين لما استُجِد من سياسات بمنتهى الاستباحة للوجود والتاريخ الفلسطيني بسبب الخلافات مع القيادات الفلسطينية !!...
وعلى الرغم من الخناجر التي كثرت، لكن الحتمية التاريخية لهذا الشعب قدره في مواصلة انتفاضاته اليومية، ومقاومته التي لم ولن تنقطع، من أجل تأمين أبسط شروط الحياة أيّا كان الوضع السياسي.. فتأثير رفة "جناحي الفراشة" في النظريات الفيزيائية وغيرها من فروع المعرفة، استعارة مجازية لحقيقة علمية، بأن الفروق الصغيرة لأي نظام متحرك ديناميكي قد ينتج عنها في المدى البعيد تأثيرات هائلة على سلوكيات هذا النظام ، بل تغييره..
وهكذا روح النضال، وبقاء الفلسطينيين في أرضهم بحدّ ذاته مقاومة.. سيظلون يسيرون إلى الحواجز الإسرائيلية، ويتلقون رصاصا وحشيا في أجسادهم، ولربما يجذب كاميرات تلفزيونية وتقارير صحفية كخبر.. لكنهم سيستمرون كعادتهم في كل بقاع موطنهم المحتل، ولسان حالهم يقول ما قاله طرفة بن العبد:
وظلـم ذوي القربـى أشــدُّ مضـاضـة على المرء من وقع الحسام المهند..
سيستمرون في تطوير أدوات نضالهم ومقاومة الفساد .. ولربما تحررهم هو الذي سيحرر العرب!! ..فهم ليسوا بحاجة لنصرة مناسباتية، طالما أنّ الحكومات العربية، في وضعٍ لا تُحسد عليه من التصحر متعدّد الأوجُه، تائهين عبر المَتاهة التي تنصبها نظم العولمةُ، مُدمنين عليها أحياء في الشكل وموتى في المضمون، ضاربين عرض الحائط كل ما من شأنه انقاذ القدس وفلسطين من التدنيس والتدليس الحضاري الذي سيمتد الى الكل..
فحلم المحتل أكبر بكثير من الماء للماء بل سيمتد الى أدق خلايا التكوين الحضاري للمنطقة بأسرها، في هذا التبني للميثولوجيا ونهم البحث عن بوابات للسماء بالإضافة للقدس، وقد تحول الى عقدي ، ويا للمفارقة في ثوب ديمقراطي علماني ...
في ظل كل هذا وغيره الكثير، ما لم تحدث مفاجأة ذاتية عربية خارقة، وصحوة جماعية من هذه الغيبوبة ، فالآتي أعظم...