أميركا تعتدل وإسرائيل تتطرف
د. رلى الفرا الحروب
22-02-2009 04:11 AM
عندما صوت المجتمع الأمريكي لباراك أوباما باعتباره رمزا للتغيير كان يعبر بشكل واضح عن نزعة مغايرة لتلك التي وسمت عهد الإدارة الجمهورية السابقة، وكان يعلن أنه أكثر جنوحا للاعتدال اليوم بعدما عادت عليه سياسات بوش المتطرفة بالوبال سياسيا واقتصاديا.
تلك الرغبة الشعبية في التغيير كانت المحرك الذي جاء بالإدارة الأمريكية الجديدة، وهي لذلك تسعى إلى الحفاظ عليها باعتبارها مصدر قوتها، و تحاول ترجمتها عبر أكثر من قناة، نتوقف اليوم أمام واحدة منها فقط هي القناة السياسية في مسار واحد فقط هو مسار "الشرق الأوسط".
منذ صعود إدارة أوباما إلى قمة السلطة في واشنطن والرسائل الإيجابية تتوالى، فمن إعادة التزام بخيار الدولتين طمأنت الأطراف المعنية ، إلى إعلان عن استعداد للحوار مع إيران قد يترجم قريبا إلى لقاءات على أعلى المستويات ربما تتبع الانتخابات الإيرانية في حزيران أو تستبقها، إلى انفتاح اقتصادي وسياسي مفاجئ على سوريا ليس عبر البوابات التركية والفرنسية التي تصدرت المشهد خلال العام الماضي بل عبر العراق الذي أعلن عن نيته الإسراع بتنفيذ مشاريع مشتركة للطاقة بعد عداء استفحل خلال العامين الأخيرين من عمر الإدارة البوشية السابقة، وعبر السماح بتحويل أموال السوريين الأمريكيين إلى جمعيات خيرية تعنى بالأطفال في سوريا لأول مرة منذ فرض عقوبات اقتصادية ضد سوريا ، إلى إفراج مباغت عن المعارض المصري أيمن نور الذي خذلته الإدارة السابقة إبقاء على صداقتها مع مبارك، إلى زيارة الوفد الأمريكي برئاسة السناتور كيري رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ قطاع غزة لتفقد آثار العدوان الإسرائيلي عليه يبدو جليا أن أوباما يتحرك بسرعة وفي اتجاهات لا تتطابق مع سلفه.
زيارة جون كيري المرشح السابق للرئاسة الأمريكية والذي يتمتع باحترام كبير في الحزب الديموقراطي حتى أنه كان من أوائل الأسماء التي ترددت لتولي حقيبة الخارجية قبل أن يحسم أوباما رأيه باتجاه كلنتون لم تكن لتحدث في عهد بوش الذي حدد رؤية إدارته بزاوية واحدة هي الزاوية الإسرائيلية وانفراجاتها الممتدة إلى سلطة عباس، وهي إشارة إيجابية هامة لا ينبغي إغفالها وتؤكد حرص الرئيس الأمريكي الجديد على الاطلاع على الواقع بطرق مباشرة وعبر أكثر من مبعوث ليتمكن من ثم من بناء استنتاجات رشيدة تبتعد عن فخ المقدمات الزائفة والاستقراء أحادي النظرة، وهو بذلك يحاول تفادي تكرار أخطاء سلفه الذي أسلم قياده لمجموعة من المضلـِّلين المضلـَّلين.
الإدارة الأمريكية الجديدة تعتزم نفخ الحياة في روح العمل العالمي المشترك عبر إعادة الاعتبار للأمم المتحدة والتنسيق مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي واليابان والقوى الصاعدة في الهند والصين وتلك العائدة في روسيا، وهي تعبر صراحة عن أنها لا تنظر إلى الدول العربية والإسلامية بروح العداء أو الريبة السابقة التي ميزت العهد البوشي، بل في إطار من الاحترام والتعاون المشترك بما يساهم في نشر السلم والأمن العالميين ويوفر الأرضية اللازمة لتجاوز المحنة الاقتصادية التي تهدد بإعادة رسم معادلات القوى العالمية.
أمام تلك الروح الأمريكية الجديدة التي يمكن أن تمتد عدواها لتشمل العالم كله أو على الأقل مراكز صنع القرار فيه تصعد في إسرائيل روح نشاز مضادة لتلك التوجهات العالمية، روح تزداد تطرفا وجنوحا إلى اليمين الذي بدأ العالم ينفض أثقاله عنه برحيل إدارة بوش المشؤومة، وبينما يبشر أوباما بموجة من الاعتدال تجتاح الغرب ينذر نتنياهو وليبرمان بموجة من التعصب الأعمى تجتاح إسرائيل وتغلق الباب في وجه كل النوايا الطيبة التي كان يمكن أن تسفر عن حلول أو بذور لحلول في عهد الإدارة الأوبامية.
حين نعلم أن "ميرتس" الحزب الوحيد الذي ينتمي إلى اليسار الحقيقي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا في إسرائيل لم يحرز سوى ثلاثة مقاعد في الكنيست وأن العمل الحزب الذي ينتمي بفكره الاقتصادي إلى اليسار والسياسي إلى الوسط لم يحرز أكثر من 13 مقعدا وجاء في المرتبة الرابعة بعد ثلاثة أحزاب يمينية سيطرت على الكنيست، وإن استثنينا الأحزاب العربية من المعادلة بمجموع 11 مقعدا ، فإن النتيجة هي أن المجتمع الإسرائيلي جنح بأغلبيته الساحقة إلى اليمين، وأن ما يحتج به نتنياهو من أن الشعب الإسرائيلي يريده في الحكم هو صحيح بالفعل فذلك الاكتساح لليمين يعني أن حكومة يمينية هي التعبير الحقيقي عن إرادة المجتمع الإسرائيلي، خاصة وأن الأحزاب اليمينية المتطرفة حصدت 65 مقعدا تصعد إلى 93 مقعدا إن أضفنا كاديما الذي يمثل اليمين المعتدل والذي حصل على 28 .
ولكن نتنياهو رغم عجرفته الظاهرة وإصراره على الانفراد بالسلطة بات يدرك حجم الورطة التي تنتظره إن هو شكل ائتلافا يقوم على ستة أحزاب يمينية متطرفة لكل منها مطامعه وغاياته، خاصة وأن حليفه الأخير أفيغدور ليبرمان حذره علنا من أن حكومة كتلك ستكون ضعيفة وغير قادرة على تحقيق الأهداف بسبب كثرة الرؤوس فيها ، وهو ما يعرضها للانهيار أمام أي محك، ورغم تصريحات مكتبه السابقة بجهوزيته لتشكيل حكومة دون كاديما إلا أنه بات متيقنا أن من صالحه إقناع كاديما بالانضمام إليه تجنبا لعزلة دولية سيجد نفسه أمامها وضغوط أمريكية بدأ بمواجهتها بالفعل حتى قبل الانتخابات، فحكومة مشكلة من ثلاثة أحزاب كبرى أقوى وأكثر تمثيلا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا من حكومة مشكلة من ائتلاف يقوده حزب كبير وآخر صاعد وأربعة أحزاب صغرى متنافسة، كما أنها ستكون أكثر قبولا وتوفر لرئيسها هامشا أوسع من المناورة وقدرة أكبر على اتخاذ القرارات.
انضمام كاديما إلى الحكومة الجديدة يعني نجاح نتنياهو في الحصول على ورقة توت تداري عورة حكومته، ولكن تلك الورقة لن تكون قادرة على فعل أكثر من ذلك، وهو ما أدركته ليفني التي أعلنت أنها لن تقدم مخرجا لنتنياهو من مأزقه على حساب تدمير مستقبل حزبها السياسي وتكرار الخطأ الذي وقع فيه حزب العمل من قبلها بانضمامه إلى حكومة ضعيفة شكلتها كاديما في ائتلاف هش من الأضداد ولم تفلح في تحقيق شيء من وعودها أمام الإسرائيليين.
رغم ذلك كله، وسواء شكل نتنياهو الحكومة بمعزل عن كاديما أو بالتعاون معها، وسواء توصل إلى صفقة لتبادل السلطة مع ليفني أم لم يتوصل، فإن سياساته لن تتغير كثيرا حتى وإن تغيرت التكتيكات المعلنة، خاصة بوجود أفيغدور ليبرمان الذي بات في موقع يملي فيه شروطه، وسواء دخلت باقي القوى اليمينية المتطرفة إلى الحكومة أم لم تدخل، فإنها بحكم تركيبتها واتجاهات أفرادها الايديولوجية ستبقى بعيدة عن تحقيق السلام وغير مستعدة للقيام بما كان يسميه شارون " التنازلات المؤلمة" ومضادة للاتجاهات العالمية التي تسعى إلى إغلاق ملف الصراع العربي الإسرائيلي الشائك الذي يستنزف طاقات المنطقة والعالم منذ قرن من الزمان عبر التوصل إلى حلول وسط أو تسويات مقبولة.
ولكن، هنالك دوما مكان للمفاجآت، ومن يدري فقد يكون نتنياهو العائد إلى الحكم غير ذلك الذي جاء إليه قبل عقد من الزمان، وقد تتمكن الحكومة الجديدة من إبرام صفقة ما مع العرب والفلسطينيين، خاصة إن نجح نتنياهو بإقناع كاديما والعمل بدلا من الأحزاب اليمينية المتطرفة للانضمام إلى حكومة وحدة وطنية لأنه يعبر حينها عن توفر خط جديد في فكره ربما يقود إلى نهايات مختلفة إن توفرت لدى العرب الإرادة اللازمة للدفع باتجاه حلول نهائية وإقناع الإدارة الأمريكية الجديدة بتبني تلك الحلول، ولكن الدلائل المتوفرة حتى اللحظة لا تدعم أيا من تلك الاستنتاجات لا على صعيد نتنياهو ولا على صعيد العرب الذين يمرون بأسوأ مراحل الفرقة وتبعثر المواقف وتشرذم الأهداف .
الانباط.