تطالعنا هذه الأيام مرة أخرى قصص الوطن البديل أو الدور الوظيفي للأردن في الضفة الغربية، وهي ذات القصص التي دعا لها جون بولتون وروبرت كاجان وعتاة المحافظين، نيابة عن اليمين الإسرائيلي المتطرف، ورددها البعض بين ظهرانينا، ربما عن حسن نية أو غفلة، أحيانا، أو، في أحيان أخرى، بسبب انتماءات آيديولوجية وسياسية خفية أو، في حالات غيرها، سعيا وراء مصالح خاصة محبطة حتى درجة اليأس.
ينطلق جميع هؤلاء من وهم قديم بأن الأردن، وبسبب موقعه الجغرافي السياسي، معرض لأخطار أقوى من قدرته على الصمود. وقد تعرض، بسبب ذلك الوهم بالذات، لهجمات خارجية وداخلية لم تنقطع عبر تاريخه، لكنها لم تضعفه، بل جعلته كل مواجهة جديدة معها أقوى من ذي قبل واثقا من نفسه ومستعدا لمواجهة التحدي اللاحق.
لم يقصد المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي من نظريته في التحدي والاستجابة دراسة تجارب الدول الوطنية، فالاستجابة والتحدي عادة ما تصنع، حسب هذه النظرية، حضارة أو ثقافة جديدة أكثر شمولا من مجرد دولة بحدود جغرافية معروفة؛ إلا أنها، في حالة الأردن، تمثل استثناء. فالتجربة الأردنية في الاستجابة الوطنية الناجحة للتحديات مدرسة سياسية فريدة ومتميزة، وتجربة عربية مثيرة لكل المفكرين الذين درسوها.
وهي تجربة يعيشها الأردن والأردنيون ويعتزون بها. وقد تحولوا خلالها إلى جسم سياسي شهم سليم معافى يكاد يخلو من الندوب الظاهرة أو الخفية، محصن بحصانة نادرة، حتى أنه يحق التساؤل هنا ما إذا كانت الأزمات التي استهدفتهم وبلدهم عبرتاريخه كانت أزمات فعلا، أم أنها كانت فرصا لهم ليثبتوا بأنهم أبناء الثورة العربية الكبرى وورثتها الشرعيون.
لقد تعرض الأردن في الستين سنة الأخيرة من تاريخه لأزمة كبيرة بعد أخرى، كل ست أو سبع سنوات، بالمعدل. وكانت في بعضها أزمات صدرت إليه من دول الجوار استهدفت وجوده، أو وحدة شعبه الوطنية، أو محاصرته اقتصاديا وتجفيف موارده؛ وكانت، في بعضها، دولية استهدفت محاصرته لمنعه من الانتصار لمصالحه ومصالح أمته؛ بينما كانت، في بعضها الآخر، وطنية صممت للالتفاف على مكانته بتقديم بدائل له في دهاليز دول متربصة به ومؤسسات كان همها تحطيم أي أمل للاستقرار في هذه المنطقة.
وقد تسارعت وتيرة تلك الأزمات وازدادت عددا وعمقا في عهد المملكة الرابعة. فقد شهد الأردن، بدءا من سنة2000 انتكاسة عملية السلام على يد شارون فأعاد احتلال الضفة الغربية ورفض مبادرة السلام العربية لصالح وضع راهن صنعته قوة إسرائيل العسكرية بدعم مطلق من المحافظين الجدد بما عرف عنهم من إيمانهم بترهات آرماجيدون وسياسات الشرق الأوسط الجديد، كمخرج عملياتي لأزمات إسرائيل الحالية والمستقبلية؛ ثم تواصلت الأزمات باحتلال العراق وتدميره وإجبار مئات الآلاف من أبنائه على الفرار بحياتهم للأردن، وما كان يمثله ذلك من خطر في استنزاف موارده القليلة وإضعافه ليكون سهلا أمام الضغط ومحاولات التطويع.
وفي الجبهة الداخلية، تعرض المواطنون لهجمة مدبرة من قبل ما سمي بشركات البورصة الوهمية استهدفت قدرتهم على الوقوف على أقدامهم، التي جاءت متزامنة مع أزمة ارتفاع غير مسبوق في أسعار المحروقات انعكست، بتأثير مضاعف عددا من المرات، على مستوى معيشة المواطن وقدرة الدولة على إنجاده بما يكفي. وقد ترافق كل ذلك مع انهيار مالي عالمي كان يجب، في الأحوال العادية، أن تقعد البلاد والناس لو لم يكن الأردن حصينا وأكثر منعة مما يظنون.
وخرج الأردن من كل هذه الأزمات وقد استعاد، بما يشبه المعجزة، سيطرته على الأمور. خرج ليجد نفسه في عالم متغير سياسيا واعدا بالكثير كشفت فيه إسرائيل أخيرا عن وجهها العنصري الحقيقي المتطرف، سواء في ما اقترفته من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، أو فيما أسفرت عنه انتخاباتها أخيرا.
لقد صار واضحا أن الأمور قد نضجت بما يكفي لبدء التغيير الفعلي في المنطقة لصالح السلام، ووضع الأمور في نصابها. وللعرب بعامة وللأردن، بخاصة، دور محوري لتحقيق ذلك يعيه الأردن ويعي أبعاده.
ألهذا السبب يعود الحديث عن الوطن البديل؟ ماهو الدور الوظيفي لهذا الحديث الذي صار لغوا، إذن؟ فالأردن قوي بأكثر مما يظنون، كما قال جلالة الملك أثناء اجتماعه بعدد من الشخصيات من مختلف محافظات المملكة. الذين يجب أن يخافوا هم الذين يتجرأون على التاريخ بسياسات خارجة على سياقاته.
الراي