من بين ما يطرحه قرار الرئيس الامريكي بشان القدس، لتشريحه ومحاولة فهمه، هو العلاقات العربية الامريكية ليس في عهد ترامب فقط، بل عبر العقود الماضيه؛ لان قرار ترمب ليس بعيدا عن طبيعة هذه العلاقات وماهيتها، ولا عن رؤية الادارة الامريكية لها، تلك الرؤية التي جعلتها تتجرأ على اتخاذ هذا القرار التاريخي والحاسم. وبالتأكيد لم يتخذ ترمب قراره الا بعد ان قيّمت ادارته مسبقا ردود الفعل العربية المتوقعة عليه، واجرت حسابات الربح والخسارة بشأنه؛ لأن قرارات الدول وخاصة العظمى منها لاتؤخذ ارتجالا، بل تتخذ بعد دراسة مستفيضة لها واجراء ما يلزمها من حسابات.
والحقيقة ان المتابع للمشاهد الغريبة الاطوار في العلاقة العربية الامريكيه عبر العقود الماضية يعجز عن تحديد وصف دقيق لها، او رسم اطار يضعها فيه، منذ ان اطلت الولايات المتحدة منتصرة بعد الحرب العالمية الثانية على الشرق الاوسط، إذ كانت المقاتل الرئيس في هزيمة النازية والفاشية، والفاعل الموضوعي في ازاحة الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية عن ساحات العالم المؤثرة. اطلت وهي تنفذ رؤية جديدة للعالم، وتجعل الاخرين يلهثون وراءها بحثا عن بقية مصالح او حماية لحدود وانظمة، حتى لو ادى ذلك الى شعور بالمهانة والتبعية.
جاءت الولايات المتحدة الى منطقة تعرف انها قلب العالم ومخزن مصالحه واستراتيجياته عبر التاريخ، وفيها ما ليس في منطقة اخرى من العالم. وكان اول ما قامت به هوالبحث عن وكيل محلي لها يكون مأمونا تحمله معها، ويحمل معها ماتريد. ولم تجد هذا الوكيل المأمون والموثوق، الا بعد ان تبدت في الافق مؤشرات ظهور كيان قريب من النفس الامريكية وطبيعة التفكير في ادارة الدول و حتى في انشائها، وبعيد عن ثقافة المنطقة التي غاصت عبر القرون في حوار مع النفس لم يفض الى تطور او تطلع نحو الحداثه. لقد وجدت الوكيل المحلي وكأنها وجدت كنزا لاينضب. وجدته صديقا يتقدم الصفوف في الخدمة بنشاط وفعالية تنسجم مع سرعة دوران ساعات الزمن المستجد، فكانت اسرائيل هي الوكيل، وكانت الولايات المتحدة الراعي وتاجر الجملة القادر على توفير كل شئء، اما بالسياسة واما بالقوة، وكلاهما سند للاخر يدعمه ويتوافق معه.
وكانت تلك اللحظة هي اللحظة الحاسمة في العلاقات العربية الامريكية التي حددت مسار وخطوط هذه العلاقات طوال العقود التالية ولاتزال.
وكانت الحالة على الجانبين كما يلي :
الولايات المتحدة الدولة الاعظم في العالم، تمتلك كل وسائل القوة وعناصرها، كما تمتلك وسائل استمرارها الى مدى غير منظور. ثم انها تعرف كيف تستخدم هذه القوة وتربح معاركها، بعد ان خاضت حروبا كبرى وانتصرت فيها، ولا تزال مستعدة لان تفعل الشئ نفسه عندما ترى ان مصالحها ومواقفها تتطلب ذلك. في المقابل وجدت واشنطن امامها، دولا متخلفة عاشت قرونا تحت الاحتلال الاجنبي، منقسمة على نفسها ولا تزال تبحث عن هويتها. تتغذى من الماضي، وتنام على احلام مستحيلة لاتملك وسائل تحقيقها ولاتسعى لامتلاكها. كما انها دول لاتعرف عن فكرة الحرب الحديثة شيئا ولا عن آلياتها، لانها لم تجرب الحروب او يتاح لها خوضها منذ عصور استخدام السيوف التي مضت.
اطلت الولايات المتحده ولاترى في علاقتها مع العرب الا انهم يتواجدون في موقع يتوسط العالم و يصلح لان يكون عنصر تأثير في الصراع مع العدو الجديد “ الاتحاد السوفياتي “ وابعد من ذلك ليس الا مصدرا للطاقة التي لايحتاجها اهلها بل يحتاجها الغرب الذي يستعد لانطلاقة حضارية جديدة بعد الحرب الثانية. ولذلك فان مخزن الطاقة هذا يجب ان يبقى بعيدا عن يد الاعداء وقبلهم الاصدقاء، تتحكم واشنطن في مفاتيحه وحدها تمنع وتعطي من تريد. وامر مثل هذا يتطلب تواجد قوة امريكية لحماية المخزن ومعه حماية الانظمة والدول. وفي المقابل يرى العرب في هذه الطاقة ذهبا طارئا على حياتهم. كما رأوا في تحقيق الحماية ما هو اغلى من الذهب، فناموا مطمئنين لاعلاقة لهم الا بما هو بين ايديهم وخلفهم، وليس ما تحمله ايامهم القادمة. ولذلك قبلوا بالقليل من قيمته مقابل فتح مسامات الارض لاخراجه، وذلك يكفي لاطعام الجائع وشراء بعض وسائل التطور الحضاري الغربي. وكانت تلك حدود العلاقة بين الطرفين وخطوط مساراتها مع بعض الاضافات الثانويه.
وفي الوقت نفسه كان الوكيل المحلي “ اسرائيل “ يطور مشروعه وفقا لحالة العلاقة الامريكية العربية والحالة العربية نفسها. يخطط ويفكر كيف ينفذ، ويمتلك كل وسائل التنفيذ بدعم من الشريك الاكبر وبمشاركته او مباركته. وشن حروبا ضد العرب كل عشر سنوات تقريبا، وانتصر فيها كلها عدا واحدة حقق فيها نصف انتصار عسكري، وانتصار سياسي كامل وهي حرب تشرين.
وكان العرب يعرفون كل او بعض حجم الدعم الامريكي المستمر لاسرائيل. ولكنهم غير قادرين على مقاومة هذه الحقيقة الممتدة منذ عقود، والمعلن عنها بالفعل والقول الامريكي الصريح. فمقاومة هذه الحقيقة يعني الاطاحة بقواعد ربما تتعلق بوجود الدول المقاومة وانظمتها. ولذلك فان واشنطن تعرف تماما حدود مقاومة العرب لدعمها اسرائيل، وتعطيهم بعض المبررات للكلام وليس للفعل.
لاتجد وصفا للعلاقة العربية الامريكية؛ لانها ليست علاقة صداقة او تحالف او شراكة؛ فالصداقة والتحالف والشراكة ذهبت الى الوكيل المحلي منذ نحو سبعين عاما. كما انها ليست علاقة عداوة. فالعرب لايستطيعون استعداء الولايات المتحدة الى حد الصدام؛ لان ذلك اكثر مما تستطيع الامة كلها تحمل كلفته ونتائجه. ولذلك مهما كان حجم الألم في الصفعات الامريكية، فان رد الفعل العربي لايمكن ان يصل الى حد الايلام المقابل. وكان البديل لذلك هو الاستمرار في اللهاث وراء واشنطن طلبا لودها المفقود وعشقها المستحيل، دون ان يعلموا ان واشنطن قررت مبكرا ان العرب لايستحقون الود والعشق الذي يطلبونه، وتلك مشكلة العلاقة العربية مع امريكا، وستظل كذلك الى مدى بعيد. وبالتاكيد فان قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل جاء على قاعدة العلم الاكيد بهذه القواعد الثابتة في العلاقة العربية الامريكيه، ولسان حاله يقول ماذا يستطيع العرب ان يفعلوا مقابل ان انفذ رؤيتي التوراتية ووعدي لاسرائيل ؟. انها لحظة فارقة في تاريخ العلاقة العربية الامريكية، والعلاقة الاسرائيلية الامريكية، تعبر عن غطرسة القوة الامريكية واستعدادها لاهانة الامم العاجزة دون ان تتوقع ما يؤذيها اكثر من الصراخ الذي سيتوقف بعد حين، ويبقى الفعل خطا ترسمه القوة على صفحات التاريخ.