جدوى الخيارات العربية في مواجهة قرار ترامب
الدكتور موسى الرحامنة
10-12-2017 08:58 PM
ردود الأفعال العربية على قرار الرئيس الأمريكي ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل هي ردود متفاوتة، فبعض الدول العربية جاءت ردودها خجولة تقتصر على بيانات باهتة لا طعم ولا لون ولا رائحة، فيما كانت هناك ردود أفعال رسمية حاسمة تطابقت مع المواقف الشعبية فخرجت الجماهير الى الشوارع وأمام مقار السفارة الأمريكية تعبيراً عن الغضب تجاه قرار الارادة الامريكية، في وقت كانت بعض شعوب الدول العربية راقدة، كأن القرار الذي انتفضت له كل الشعوب الحية لا يعنيها البتة، فجاءت هذه المواقف استعارة للمواقف الرسمية.
القرار الجائر بحق القدس رمز الطهارة والمكانة الدينية في العالم الإسلامي، يستوجب موقفاً صارماً موحداً سواء على الصعيد الشعبي أو الرسمي، لأنه وبصراحة متناهية لا نجد في الساحة اليوم سوى الأردن وفلسطين يذودون عن القدس، ولكن إدارة الظهر للمجهودات الاردنية والفلسطينية ستكون نتائجه كارثية على المنطقة بأسرها، فلا يعقل هذا التراجع والإستخذاء حيال هذه القضية المركزية التي ينبغي ألا تقبل المساومة والوقوف عند إصدار البيانات الشاجبة والمستنكرة، التي عهدتها إسرائيل إزاء كل عدوان غاشم تقوم به في فلسطين.
الأدوات المتوفرة لدى العرب لمواجهة هذا التمادي وهذه الغطرسة الأمريكية الصهيونية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، ولكن السؤال هل يجرؤ العرب وبموقف موحد فيقدمون على استخدام أدوات الضغط المتاحة، فأمام العرب خيار إعادة صياغة العلاقة مع الادارة الامريكية المنحازة كلياً لدولة الكيان الغاصب ورفض اي دور امريكي لرعاية عملية السلام في منطقة الشرق الاوسط بعد أن ثبت أن أمريكا لا تصلح البتة أن تكون راعيا للسلام وقد ثبت انها لا تجيد سوى دور رعاة البقر لا السلام، الإدارة الامريكية يربطها في منطقة الشرق الاوسط مصالح استراتيجية مهمة جداً لا يمكن أن تستغني عنها بسهولة، فهل يمكن أن يكون سلاح النفط مثلاً أحد هذه الأدوات، باعتقادي لن يكون النفط سلاحاً يمكن إشهاره في وجه الادارة الامريكية عقابا لها على دورها غير النزيه وغير العادل بعدما تبين حجم ردود الفعل من دول العرب النفطية والتي اصلاً قد شرعت للتو في بناء علاقات مع إسرائيل وأغدقت على الادارة الامريكية صافي ارباحها من النفط الذي هو في الاساس سلعة امريكية محضة، إذاً، النفط لن يكون بحال من الاحوال سلاحاً جريئاً يمكن التلويح به في وجه الادارة الامريكية المتهورة، وقد اثبت التاريخ كيفية التعامل مع تلك الورقة .
قد تبدو التجارة العربية الامريكية والتلويح بمقاطعة المنتجات الامريكية أحد هذه الادوات بما فيها صفقات الاسلحة ولكن هل بالإمكان بلورة موقف عربي موحد لتشكيل جبهة لمقاطعة أمريكا تجارياً أعتقد أن الواقع العربي الراهن يشي باستحالة صياغة موقف عربي واحد في هذا السياق في ظل حالة التشرذم التي تعانيها الامة العربية وفي ظل هذا التسابق وهذه الهرولة غير المدروسة للحصول على شهادات حسن السلوك من الادارة الامريكية والكيان الاسرائيلي الغاصب بعد ان بدأت تلوح في الأفق بوادر تحالفات عربية في هذا الصدد لمواجهة بعض التهديدات المزعومة في الاقليم العربي، إذاً، تبني موقف موحد تجاه الادارة الامريكية من خلال مقاطعة المنتجات الامريكية على اختلاف تلاوينها يبدو طموحاً صعب التحقيق إذا ما علمنا بان المنطقة العربية تشكل أكبر سوق للمنتجات الامريكية .
وقد يبدو الحديث عن تقارب عربي روسي كجزء من إعادة صياغة الأحلاف بعد أن ثبت البون الشاسع بين الادارة الامريكية والادارة الروسية في مسألة الحفاظ على الشريك والحليف وعدم بيعه والتخلي عنه عند او منعطف، فقد ثبت بالقطع ان الحليف الروسي يقدر حليفه ويدافع عنه سياسياً وعسكرياً ويشكل غطاء قوياً يمكن الاحتماء به في العواصف والملمات، ولكن السؤال المطروح وفي ظل الحديث عن عقد تحالف عربي روسي هل ستنخرط كل الدول العربية في ركاب هكذا حلف سيكون الجواب قطعا لا، فسوف تعارض الدول ذات الوزن الاقتصادي في المنطقة العربية مثل هذا التوجه، بعد أن سلّمت للإدارة الأمريكية عروتها ولجامها.
إذاً، لن تصلح ورقة النفط، ولا بلورة موقف موحد لمقاطعة البضائع الامريكية، ولا صياغة حلف عربي روسي للأسباب التي ذكرناها ورقة ضغط في مواجهة الادارة الامريكية لثنيها وتراجعها عن قرارها الغاشم، فكل هذه الأوراق بات ميؤوس من مجرد التفكير بالتلويح فيها .
الحالة العربية الراهنة وما تعانيه من تمزق تقف عاجزة وواهية أمام هذه الزوابع التي تعصف في المنطقة، فالأجدر هو تنقية الأجواء العربية، وحل كافة القضايا العربية البينية العالقة قبل الحديث عن أي أوراق ضغط، فالإدارة الامريكية لم تتجرا على الاقدام على هكذا سابقة تاريخية من غير دراسة واعية للواقع العربي بعد أن رصدت مسبقاً ردود الأفعال المحتملة واستغلت حالة التيه والتشرذم والضياع التي تواجهها الامة فوجدت أن الفكرة قد حان أوانها، كما قال فكتور هوجو أن غزو الجيوش يمكن أن يُقاوَم ولكنك لا تستطيع أن تقاوم فكرة حان أوانها، وهذا ما وجدته الادارة الامريكية بقيادة التاجر ترامب أن الفكرة قد حان أوانها والبيئة صالحة لتطبيقها والشروع فيها .
ولكن، على الدول العربية التي تعنيها القدس أن لا تعدم الوسيلة لمواجهة هذا القرار الآثم، فالدول العربية التي ارتبطت بمعاهدات سلام مع إسرائيل عليها الآن وبلا إبطاء أن تبادر الى مراجعة هذه الاتفاقات وتجميدها وقطع كافة اشكال التعامل الدبلوماسي وغيره مع اسرائيل، والعمل على عزل الدول التي تتعامل مع إسرائيل كما فعل العرب مع مصر عقب زيارة السادات للكنيست الاسرائيلي وتوقيعه اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، وعلى الدول العربية الصادقة مع نفسها اولاً ومع شعوبها أن تدعم الشعب العربي الفلسطيني المرابط في فلسطين وهو يواجه آلة الاحتلال بصدور عارية ويذب عن شرف الامة، وعلى الدول العربية قاطبة ان تقدم الدعم للأردن بصفته الوصي على المقدسات الاسلامية في الاقصى والقدس ودعمه في كل المحافل السياسية . ثم انه لا بد من الكف عن بعض الممارسات المناكفة التي تقوم بها بعض الدول العربية والتي باتت تشكل شذوذاً يفت في عضد اي موقف عربي موحد إزاء قضية القدس وإلا كيف يمكن ان نفسر زيارة وفد عربي الى إسرائيل في ظل هذه الأجواء العاصفة بما يمكن وصفه بالتطبيع مع كيان لا يرعوي في الأمة إلَّاً ولا ذمة، وعلى الآلة الاعلامية العربية إعادة صياغة خطابها بما يرقى لمواجهة هذا الحدث لا أن تقف أداة صمّاء لا تجيد إلا لغة ودّع وأستقبل حفظه الله.