باعوا مدينتي، وفي قصص أخرى اشتروا مدنا أخرى.
وراء الوجوه المقنعة هرولوا، يسألون أصحابها عن عملة قديمة كان أجدادنا في الماضي يعتزون بحملها في صرر حاكتها أنامل نساء مدينتي.
أطفأوا ضوء البرق، أخمدوا صوت الرعد، تركوا سماء مدينتي ظمأى تستسقي أرضا عطشى، أوقفوا جريان النهر، وأرادوا، وأرادوا تجفيف النهر، ما استطاعوا.
نفضوا التراب عن وجه مدينتي بحثا عن ذهب أو ماس، فما وجدوا ما روته الأساطير والخرافات، إذ لم يكن هناك غير تراب أثمن من درر البحر!
في مدينتي ليست الأرض وحدها عطشى، بل حتى السماء ظمأى كما قلت، وفي مدينة أخرى، يذرى تراب –نفض بحثا عن ذهب أو ماس كما قلت- فوق صفحات الأنهر!
في مدينتي تسجل الناس أسماءها على الدفتر حين تشتري الخبز، وفي مدينة أخرى تقتات الكلاب من فتات الخبز الذي لم يعجبهم لونه أو رائحته.
في مدينتي كنيسة قديمة تركها الرومان لنا إرثا، نصلي بها لساكن السماء كلما قرعت أجراسها، وفي مدينة أخرى كنيسة عصرية شيدت بالحجر الأبيض، يصلي بها أهلها كلما قرعت أجراس العيد.
في مدينتي طفل صغير يحسد المساء على نومه! فاللصوص الملاعين لم يكتفوا باغتصاب أحلامه البريئة، بل سرقوا أيضا نومه الذي كان يباغته كلما خيط النعاس عيون المساء! سرقوا النوم من مخدعه، تركوه يلح على أمه كلما تقبله على فمه بالسؤال عن اسم مدينته، فتجيبه أمه: 'بلا اسم'.
وفي مدينة أخرى، طفل آخر يداعب قططا سجلت أسماؤها على جواز سفر أو بطاقة صحية.
سألوه: من تحب؟!
حرك أنامله في الهواء عازفا لهم أنشودة الحب: أحب أبي، وأمي، وإخوتي، ونفسي، وأحب مدينتي أكثر من نفسي!
سألوه: ما اسم مدينتك هذه؟
قال لهم: بلا اسم.
فغروا أفواههم، 'بلا اسم' رددوا، سألوه: وأين تقع مدينتك هذه؟
قال لهم: في جهة خامسة تقع مدينتي.
عقدوا حواجبهم، قالوا له: أتسخر منا؟
قال لهم: أنتم سخرية مدينتي؛ فكيف لي أن أسخر منكم؟
مطوا شفاههم، أخماسا بأسداس ضربوا، سألوه مرة أخرى: أين تقع مدينتك؟
قال لهم مرة أخرى: في جهة خامسة تقع مدينتي!
استشاطوا غضبا هذه المرة، بصقوا على عينيه، جلدوا جسدا مثخنا بجراح مدينته، وسألوه مرة ثالثة: أين تقع مدينتك هذه؟
قال لهم في المرة الثالثة: مدينتي ليست من هذا العالم! فخابوا!
وعن شعر مدينته سألوه إن كان حرا أم عموديا، قال لهم: شعر مدينتي ليس بشعر حر أو عمودي، شعر مدينتي شعر ثالث، شعر آخر، شعر متحرر من أغلال الوزن، وسلاسل القوافي، وقيود التفعيلة، شعر ثائر، شعر متمرد!
وحين سرقوا الثلج من مدينتي اللصوص الملاعين راح شعراؤها يقتبسون الشعر من أشعارهم!
مدينتي يا سادتي أرهقها صمت العالم، آآآه ما أثقله على أذني! إنه يسمعني همس سكون ليل مدينتي حين أتسكع في طرقاتها فجرا بحثا عن شعر آخر، عن شعر ثالث!
لكن مدينتي يا سادتي ستكون حرة ذات يوم حتى من نير الأسماء، والجهات الأربع!