هل تذكرون عبارة : فاز أبي لهب على حمالة الحطب، التي ظهرت وانتشرت على نطاق واسع عبر صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي، بعد فوز دونالد ترامب على منافسته هيلاري كلينتون، ووصوله إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة؟
أعتقد أن تلك العبارة كانت من أقوى وأفضل العبارات التي قدمت توصيفاً دقيقاً، وحددت جوانب ومعالم هوية الرئيس الأمريكي الجديد، على الرغم من إخفاق الكثير من السياسيين والإعلاميين في تحديد وجهة هذا الرئيس، وتقدير اتجاهاته السياسية في بادئ الأمر، وما إن كان في مقدوره قيادة دولة كبرى لها تجاذباتها واعتبارها ومكانتها على الساحة الدولية.
لقد تجرأ دونالد ترامب على ما كان يلوح به رؤساء سابقين، معلناً بجرة قلم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، في خطاب تجاهل فيه كافة التحذيرات من تداعيات القرار، الذي اعتبر بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على مسيرة السلام، التي هي أصلاً في حالة موت سريري نتيجة رفض حكومة نتنياهو الالتزام بكافة تعهداتها.
هذا القرار المسعور وضع الشرق الأوسط وأمريكا أمام منعطف خطير، جعل العالم يترقب ردة الفعل العربي والإسلامي، إزاء الصفعة المدوية التي أطلقتها واشنطن، وعبرت الحدود والبحار والمحيطات لتستقر في وجه السلام المنشود، الذي انتظره ما يزيد عن مليار وستمائة مليون عربي ومسلم، ومعهم ما يسمى بالمجتمع الدولي الذي أهمل دوره، وأتقن فن الغياب أمام الهدف والمغزى في مقارعة القانون والحق مع النفوذ والجبروت.
اغتصاب جديد جرى التوقيع عليه، ووثيقة تنازل أخرى ممن لا يملك لمن لا يستحق، أعلنها رئيس من تعتبر نفسها سيدة العالم الحر.
يقول ترامب إن قراره تأخر كثيراً! فربما انتظر ظرفاً عربياً مواتياً أكثر من الظرف الأمريكي أو حتى الإسرائيلي، لتحرير القرار الذي لبث اثنان وعشرين عاماً في خزائن طمع سياسي أو تصنع حياء أو درء خطر قد يصيب الأمن القومي. لقد عجز العرب وابتعدوا كثيرا عن قضيتهم المركزية، ولم تتوانى أنظمتهم عن ارتداء ثوب الوهن والضعف، بل انصرف بعضها إلى التماس التطبيع والترويج له.
صدمة غير متوقعة وسابقة فاجأت العالم، وقرار واضح، كشف من خلاله ترامب فشل الدور الأمريكي كوسيط نزيه في قضية الشرق الأوسط، وأسدل الستار على رعاية واشنطن لعملية السلام، وأعلن وفاة الأمم المتحدة والمعاهدات والاتفاقيات.
القدس عاصمة إسرائيل حسب ترامب، ولسان حاله يقول يجب الابتعاد عنا واللجوء إلى غيرنا في تسوية قضاياكم ومفاوضاتكم التي نرعاها، والقدس عاصمة دينية لليهود حسب الحقائق التاريخية، ومركز الحكومة الإسرائيلية منذ عام 1948، مستبعداً بذلك جميع المقدسات الإسلامية والمسيحية. ولكون التاريخ مثل الحق يصبح بين يدي القوي مجرد رأي، فقد تحولت الأنظار نحو القريبين من موقع الإهانة والاستخفاف المحيط بخطوة ترامب وهم كثيرون.
سيتطلب من مجلس الأمن الذي اتجهت بوليفيا نحوه، مراجعة مجموعة من قراراته التي تراكم عليها الغبار، تعتبر القدس الشرقية وكل ما استولت عليه اسرائيل بعد عام 1967 أرضاً محتلة، وما أقيم عليها باطل وغير قانوني، ناهيك عن قرارات أخرى أقرتها الجمعية العامة واليونسكو ومجالس حقوق الإنسان تجاهلها سيد البيت الأبيض وغض الطرف عنها، فهل لدى المجتمع الدولي القدرة على أن يخطر أقوى أعضائه أنه خارج عن النظام متمرد على القوانين؟
بينما العرب مدنهم البائسة ونظامهم الرسمي بين لاهث خلف إسرائيل، يرجو رضاها لنيل رضا واشنطن، وسياسي ماهر يحذر من خطورة وتداعيات الخطوة. في وقت ما سينشغل النظام العربي في البحث عن مخرج يخلصه من محنة مواجهة قراراته. ألم يسبق للقمة العربية عام 1980 أن طالبت بقطع العلاقات مع أي دولة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، عقب إعلان إسرائيل ضم القدس الشرقية.
لقد حذر الكثيرون من انعكاسات القرار الأمريكي، وعبر آخرون عن قلقهم حيال ما يعرف بعملية السلام، وهي تأخذ مسارها إلى حالة شيخوخة مطلوبة لذاتها، مدهش أن يبقى السلام حاضر على الألسن بعد دفن كل ما يتعلق به، وبعد ما حدد الراعي الأمريكي سقفه، ولم يترك لمن أراد أن يشارك بلا شروط غير إعطاء سقف التنازل عن الحق باسم العرب.
حل الدولتين الذي تحدث عنه سيد البيت الأبيض تجاوز القدس أو تجاوزته، فعلى أي أمر يتفاوض المتفاوضون ويتحاور المتحاورون، وإسرائيل أصبح شغلها الشاغل استجابة الرأي العام العربي للنهايات.
فهل انتهى كل شئ؟ لا ليس بعد... هناك في مكان ما في الوجدان والجدران من يوقن بالقلاع تسقط وتعاد، لقد انكمش العالم عليهم وتعاظم غدر القريب وخداع البعيد، واختفت الخيارات فعاد أولها ليكون آخرها... القوة المتغطرسة قد تغتصب الحق أو تخفيه، لكن شيئاً لم ولن يلغيه.