الملك لا ينفي وجود مؤامرات ومشاريع تطرح بين فترة وأخرى لكنه يؤكد أن الأردن أقوى منها وأنه متفائل بمستقبل الأردن
عاد الملك، مرة أخرى، ليضع البوصلة السياسية الوطنية في اتجاهها الصحيح، في لقائه أول من أمس مع نخبة من السياسيين.
الرسالة الملكية الأبرز كانت حول موضوع "الخيار الأردني" وهي مزدوجة، ذات شقين رئيسين. الشق الخارجي ويتمثل في التأكيد بصورة حاسمة على رفض أي دور سياسي غير مساعدة الفلسطينيين، فـ "الأردن قادر على حماية مصالحه"، ما يقطع الطريق على جميع السيناريوهات والاقتراحات التي صدرت خلال الفترة السابقة، من خلال مراكز الدراسات والخبرة الأميركية والإسرائيلية بإعادة التفكير في الخيار الأردني للضفة الغربية.
هذا الموضوع تحدث فيه الملك كثيراً وهو خط أحمر، غير قابل للنقاش، ويمثل تهديداً للسلم الأهلي الداخلي والأمن الوطني الأردني، كما يؤكد سياسيون ومحللون أردنيون بصورة دائمة لدى احتكاكهم بالخبراء والدبلوماسيين الغربيين.
أمّا الشق الداخلي من الرسالة الملكية، فيموضع الموقف الصحيح بين اتجاهين رئيسين في الحوار الداخلي. الاتجاه الأول الذي ينكر وجود تلك المؤامرات والسيناريوهات، التي تتزايد مع مرور الوقت، وتدعو إلى تحميل الأردن تبعات الحل النهائي للقضية. وهو اتجاه يستند في استهتاره بتلك التحديات إلى قدرة الأردن التاريخية على مواجهة جميع المنعرجات والأزمات.
معضلة هذا الاتجاه أنه لا يفكر في بناء تصور استراتيجي واضح للسيناريوهات المختلفة، ولا في الإعداد للتحديات القادمة، ويرتكز على الخبرة التاريخية الأردنية من دون النظر إلى تحول أشكال التهديد وصوره وتغير مداخل المعارك التي تستهدف استقرار الوطن وأمنه ومصالحه.
أمّا الاتجاه الثاني فهو الذي يصل إلى حد التضخيم والتهويل في تلك الخيارات، ما يخلق حالة من الرعب لدى شريحة واسعة من الرأي العام، فتصبح لا ترى هذا الخيار إلاّ قدراً سياسياً محتوماً على الأردن، ويتحول الحديث عن الهواجس إلى أداة تفتك بالثقة الشعبية بالوطن والقيادة والرسالة.
في المقابل، يعرّف الملك الموقف الحالي بصورة دقيقة وذكية بقوله: " أنا متفائل جدا على مستقبل بلدنا (...) ومش خايف من المؤامرات (...) إحنا عارفين قوة الأردن وإمكانيات الأردن (...) التخوف بيكون من الشكوك داخل المجتمع الأردني (...) هذا اللي بيخوفنا أكثر من أي شيء ثاني (...) إذا إحنا بنشتغل بروح الفريق وبناخذ موقف قوي بالنسبة للأردن (...) ما في تخوف".
الملك لا ينفي، أولاً، وجود مؤامرات ومشاريع تطرح بين فترة وأخرى، لكنه يؤكد أن الأردن أقوى منها، وأنه متفائل بمستقبل الأردن، في الوقت نفسه يحّذر من "الشكوك الداخلية"، موضحاً أن هذا هو مصدر التخوف الرئيس، أي الجبهة الداخلية.
أحسب أن هذا السطر في الحديث الملكي مهم للغاية. فالأردن تاريخياً وسياسياً تعرض لتحديات وأسئلة ومصادر تهديد وجودية شرسة، لكنه تجاوزها وتركها وراء ظهره، عندما احتمى بأبنائه ورجاله الذين لم يخذلوا الوطن يوماً، وحدث أكثر من مرة أن انقلبت التحالفات الخارجية والإقليمية لتصب في صالح من يهددون استقرار الوطن، لكن الجبهة الداخلية والمؤسسات الوطنية الراسخة هي من تصدى لتلك المؤامرات والتهديدات، وهي التي بنت سمعة الوطن وهيبته في المحيط الإقليمي.
وعندما يلمّح الملك إلى أهمية العمل بروح الفريق الواحد لتقوية الموقف الأردني وتصليبه في مواجهة جميع الضغوطات، فهو يضع المجتمع أمام مسؤولياته التاريخية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. لأنّ جميع الأجندات السياسية ستسقط إذا كانت أجندتنا الوطنية واضحة وموجهة ومحددة، وكانت أغلب المؤسسات السياسية والقوى الوطنية تعمل وفقها.
أمّا إذا تشتتت الجهود في صراعات جهوية ومنافع خاصة، وانتقلت المعركة إلى تصفية حسابات داخلية ومعارك على المواقع، وتفتتت القوى السياسية.. فعند ذلك سيكون الأردن أضعف في مواجهة الضغوط الخارجية.
نحتاج في المرحلة القادمة إلى تصليب الجبهة الداخلية وتحديد ملامح الخطاب السياسي الأردني والقذف بالكرة الملتهبة إلى مكانها الصحيح في حضن الطرف الآخر، وهو عين ما فعله الملك عندما جعل من إسرائيل الخاسر الرئيس ومهددة بوجودها، إذا لم تحدث التسوية السلمية على أساس الدولتين.
لا أدرك ما هي المصلحة المتحققة في أن نتفنن دائماً بإظهار الأردن بصورة هشة ضعيفة، ونبالغ في تضعيف مواقفنا، بينما نتغافل عن مواقع ضعف الطرف الآخر ومأزقه الحقيقي الأشد إلحاحاً وخطراً عليه!
m.aburumman@alghad.jo