يقول الفيلسوف الإغريقي هرقليطس: "الخير والشر واحد".
وفي تعقيبه على هذه العبارة بقول الفيلسوف البريطاني برتراند رسل في كتابه "حكمة الغرب" ص48: "وهي عبارة لا تعني بالطبع أن الخير والشر هما نفس الشيء، بل تعني عكس ذلك" ويطرح رسل مثالا يوضح به لنا عبارة هرقليطس قائلا: "الطريق الصاعد هو نفسه الطريق الهابط".
وقد يظن القارئ للوهلة الأولى أن رسل يناقض نفسه؛ فهو يقول تعقيبا عن "الخير والشر واحد" أنهما ليسا نفس الشيء، ثم يقول إن الطريق الصاعد هو نفسه الطريق الهابط ليوضح أن الخير والشر ليسا نفس الشيء!
وهنا أرجو من القارئ أن يتقبل وساطتي بينه وبين رسل؛ ذلك أنه يبدو لي فيما يبدو: إما أن الكلمات خانت صاحبنا رسل أو أن الترجمة "خبصت" بين القارئ والكاتب. ودليلي في ذلك أن المرحوم بإذن الله رسل يقول وهو يسهب في شرح عبارة المحروس هرقليطس: "فكما أن المرء لا يستطيع تصور طريق صاعد بدون طريق هابط فكذلك لا يستطيع المرء أن يفهم فكرة الخير من غير أن يفهم فكرة الشر في الوقت ذاته".
وبالمناسبة، لقد ذكرني مثال رسل عن الطريق بموقف طريف حصل معي في طفولتي، إذ سألني ذات يوم رفيق دربي منذ نعومة أظفاري سليمان سامي: أشرف! أيا أكثر: الطلعات ولا النزلات؟ فأجبته بتسرع، بدون أدنى تفكير: الطلعات؛ فانقلب على ظهره من الضحك، حينها أدركت حماقتي، وانفجرت من الضحك على نفسي المسكينة!
على كل حال، لقد استوقفني تعقيب صاحبنا رسل وقتا طويلا، خاصة وأنني تذكرت الإنجيل يقول على لسان ابن مريم: "أنا والآب واحد".
وإذ أسقط تعقيب المحترم رسل على قول الإنجيل، تجدني أستنتج أن ابن مريم والآب ليسا نفس "الشيء" إن جاز التعبير، بل إنهما على العكس من ذلك!
وهو ما يرمي إليه الإنجيل على لسان ابن مريم: "لا يستطيع المرء أن يتخيل الآب بدون أن يتخيل الابن". فهما إذن واحد؛ لكنهما ليسا نفس "الشيء" على سبيل المقارنة لا المعنى الحرفي لكلمة "شيء".
بعبارة أخرى، الطريق الصاعد والطريق الهابط "جزءان" من "كل" هو: الطريق. وبالمثل، الآب والابن "جزءان" من "كل" هو: الإله. الجزء الأول إله آب، والجزء الثاني إله ابن، وهما واحد؛ لكنهما ليسا نفس "الإله" إنما "جزءان" من "الإله"!
لربما أكون مصيبا في اجتهادي، ولربما أكون مخطئا، وما أدراني؟! لكنني أستميح القارئ أن يصدقني القول أنني لا أسعى من وراء كل ذلك إلا الوصول إلى الحقيقة! هذا إذا كان هناك "حقيقة"!