من أجل ذلك يا سادة عشق الأردنيون وصفي
الدكتور موسى الرحامنة
30-11-2017 01:51 PM
تمرُ الذكرى السادسة والأربعون لاستشهاد وصفي التل، الذي جسَّد حالةً وطنية استثنائية فريدة، وصفي الذي تغلغلَ في تفاصيل الذاكرة الأردنية، فما غابَ عنها أبداً، رغمَ غيابه قسراً عن مناهج طفولتنا، فاستحق أن يكون سطراً جميلاً من سطور موروثنا الشعبي النقي الصادق.
وبرغمِ أَنّي حينَ غادر هذا السيفُ قرابَه، لمْ أكنْ قد جاوزتُ الرابعةَ من عمري، لكنَّ ذاكرةَ الطفولةِ لم تزلْ تنبضُ بصورةِ الشَّهيد التي أولاها الأردنيون قِسطاً وافراً من الاهتمام، حين تَشبَّثوا بها وأَودَعوها صدورَ بيوتِهم ومجالسهم، ولم أكن أدركُ حينها من هو هذا الذي قد أفرط الأردنيون وأسرفوا في عشقه، إلى الدرجة التي معها عَجَّت بيوتُهم بصورته التي لا تكاد تُشبِهها سِوى صورة القدِّيس أو الثائر .
وتمرُ السنون، لأدرك بعدها سرَّ هذا العشق الطوفانيِّ الأردني لرجلٍ شارك الأردنيين فقرَهم وجوعَهم، حزنَهم وفرحَهم، فعشقه الفلاحون وقد رأوا المنجل يفدع في يده حصَّاداً مُحترفاً، يُغازل السنابلَ، ويشارك الحصَّادين حُداءَ المواسم، ويزور الناسَ في مضاربِهم وقراهم، ويدعوهم إلى الالتصاق بالأرض وزراعتها وفلاحتها، فهو الذي عشق الخضرةَ ونتاج الأرض الذي يكفينا سؤال الغير، وقد تأجَّجتْ في روحه وراقت له فلسفة " أحمل محراثك وأتبعني" والتي أيقظ فيها المهاتما غاندي شعباً من رقاده فراح يأكل مما يزرع .
عشقه الأردنيون، فهو الذي لم يتحصَّن في بيت شامخ الأسوار، ولم تخطفه نشوة السلطة من أبناء جلدته، بل ظل القريب من هواجسهم، العارف بشؤونهم وشجونهم، بيته كان مزاراً أردنياً عامراً بالخُطّار والزوّار، لم يفزعْ لبريقِ سلطة، ولم يكن أسيراً للألقاب والمراتب والمناقب، لقد كان منفتحاً على الناس، وفي متناول كل أردني انتابته مظلمة، أو ألمّتْ به ضائقة، فأفرد يوم الاثنين من كل أسبوع للقاء المواطنين والاستماع الى همومهم وشواغلهم .
عشقه الأردنيون، حين كان جندياً محارباً يتهيأ لحروب التحرير بالبندقية والكلمة، ولم يسمح لمزاودٍ أو مُدَّعٍ أن ينافسه في حب قضيته الاولى، يوم أنخرط في بواكير صباه في معسكرات التدريب جندياً آمن أن أكتافه ما خُلقت إلا لحملِ البندقية.
عشقه الأردنيون، لأنه كان صديقاً صدوقاً صادق الوعد منصفاً، فما خفر عهداً، ولا بدَّل وداً ولا فضّل شمالياً على جنوبي ولا شرقياً على غربي، الأردن بيته، والأردنيون أسرته، فلم يكن سمساراً ولا تاجر تجزئة .
عشقه الأردنيون، إذْ في عهده لا خصخصة ولا لصلصة، ولا حاميها حراميها، ولم يكن طبيباً يداوي الناس وهو عليل، فلا قصور ولا مزارع، ولا شركات ولا استثمارات، بل عفَّ وتسامى، حتى رفع الله قدره، وجعله كبيراً في عيون الأردنيين .
عشقه الأردنيون، وهو ابن عرار قريحة الأردنيين بلا منازع، الذي كان مشاغباً على الدولة السلطة لا على الدولة الوطن، فكان جزاؤه السجن والمنفى، لا لفسادٍ تلوّثت به يده وذمته، بل لأنه كان يجاهر بحبه لوطنٍ وقف فيه بالمرصاد لكل فاسدٍ وعُتلٍّ زنيم .
عشقه الاردنيون، يوم ذهب غاضباً ومحتجاً على اعتقال أبيه، فيُلقى به الى جانبه خلف القضبان، فينبري عرار بقصيدة تصف تلك الليلة ووصفي الى جانبه حين هبَّ يُغدقُ على أبيه من سَجَائِره بلا كُلفة . وقد تنبأ عرار الشاعر الثائر المشاغب، بأن وصفي هو مشروع نهضة، لكنه مشروعٌ محفوفٌ بالمخاطر والأهوال، وقد عبرّ ذات مرة عن مخاوفه مخاطباً ابنه بأن درب الحر كدرب وصفي غير مأمونة .
عشقه الأردنيون، لأنه العروبي الذي كان يبغض القُطريّة المُنخنقة المشوَّهة، فقد وُلد في شمال العراق، وعاش في الأردن وفلسطين، ومات في القاهرة، ولكنه لم يَمُتْ كما تموت البَعارين، بل مات شهيداً، ولم يزل حياً ينبض فينا، نكفِّنه ونشيِّعه في كل عام، ونفخر بأننا بلدٌ قدّم ملكين هاشميين ورئيسين من رؤساء الوزارة شهداء في سبيل الله والأمة.
عشقه الأردنيون، يوم جاهر بالاستعداد للتضحية فقال بنبرته الأردنية المعهودة : " بِدكُمْ وطن بدون ما نضحِّي من أجله هزاع ضحّى قُدّامي وأنا كمان راح أضحّي " .
من أجل ذلك يا سادة، عشق الأردنيون وصفي .