زال الحكم التركي عن العالم العربي بدايات القرن الماضي. خرج العسكريون الأتراك مهزومين مثل إمبراطوريتهم، بعد أكثر من أربعة قرون من الذكريات المختلطة والعائلات المختلطة والثقافات المختلطة والبشرات المختلطة. وترك الأتراك خلفهم نتفاً من العادات والتقاليد والأطعمة والحلويات والأغاني والتقاسيم والحكايات والنكايات والآلام.
ظلت آثارهم واضحة إلى نهايات القرن الماضي في أنحاء العالم العربي على نحو متفاوت. هنا ترى اسم عائلة، وهناك ترى لون عينين، وفي كل مكان تلقى ألقاب التعظيم والتفخيم والتحجيم. من باشا، إلى بك إلى أفندي، إلى آغا، إلى خانم، إلى هانم. وكانت هذه الألقاب وعادات أصحابها تملأ الأفلام المصرية في الماضي. كذلك كانت مراتب العسكريين. ولم نكن نعرف في فلسطين وسوريا ولبنان ماذا تساوي عندنا رتبة الصاغ والبكباشي واليوزباشي، لكن كان لها رنين غامض أقوى من رائد ومقدم. وكان أهمها جميعاً، في أفلام مصر أو مسرحيات الرحابنة، الشاويش.
مع السنين لم يبقَ من ملامح، أو معالم التزاوج التركي العربي إلا خلاصة المزيج. لم يعد الأحفاد ينادون جدتهم «الهانم» بل «ستي». والسجائر لم تعد «طاطلي سرت» أو «ينانجي». وقلَّت الأسماء التركية مثل ألماظ وناظلي وآسين ونرمين. ولم يعد أحد يستوحي الهندسة التركية في البناء.
هذا العالم الماضي مضى إلى جمعه محاسن مطر شبارو (الدار العربية للعلوم ناشرون) فيما سمته رواية، وهو في الحقيقة راوية عنوانها «كيف تقول وداعاً». لوحات متداولة بين إسطنبول التركية ودمشق العثمانية تحكي ملحمة ذلك العصر الذي ذاب الآن في نفسه ولم يعد يذكره سوى أهله المباشرين.
كأنما محاسن شبارو أرادت أن تطرز سجادة لشجرة العائلة تعلقها على جدار الذاكرة وحلاوة الذكريات. ألف حكاية من البوسفور وبردى، ثم هذه الحكاية بعد الألف: «كانت العروس (أمي) لا تتقن اللغة التركية، وأبي لا يتكلم العربية. وحسماً لهذه المشكلة، فقد تقرر أن يستعينا بشخص يتقن اللغتين. كان هناك شخص له صلة قريبة مع أبي يدعى عبدو، فطلبوا منه السكن في غرفة وراء الباب في بيت العريسين مقابل أجر معين، ليكون قريباً منهما، يترجم لكل منهما ما يريده من الآخر».
في السرد والكثافة والألوان تشبه رواية محاسن شبارو، كتاب أورهان باموك «إسطنبول: المدينة والذكريات» مضافاً إليها شيء من ألوان دمشق، وما أكثرها، أيام كانت الدنيا ألواناً.
الشرق الأوسط