أول أمس، في صالة الأمير حمزة بمدينة الحسين للشباب، جلس بجانبي على أحد مقاعد مدرجات الصالة على يميني طفل صغير.
كنا ننتظر معا والجماهير الغفيرة التي غصت بها مدرجات الصالة صافرة الحكم العراقي معلنا بداية لقاء "ديربي" غرب آسيا بين نشامى كرة السلة، والمنتخب اللبناني الشقيق ضمن مباريات المجموعة الثالثة في التصفيات المؤهلة لنهائيات كأس العالم لكرة السلة، والتي ستقام في الصين عام 2019.
الطفل كان قد رسم علم الوطن الغالي على كل من خديه، بينما كتب على جبينه وباللون الأحمر تحديدا، وبالإنجليزية "JORDAN".
كان الطفل واسمه محمد عساف يطير فرحا مع كل خطوة يخطو بها النشامى للأمام متقدمين على منافسهم العنيد، وكان العبوس يجتاح تقاسيم وجهه مع كل نقطة يسجلها اللبنانيون. كان محمد عساف يرفع يديه مقبوضتين عاليا ابتهاجا بأي نقطة يسجلها النشامى سواء جاءت ثنائية من داخل القوس أو ثلاثية من خارج القوس، أو فردية في حال الرميات الحرة. وعلى حين غرة، قفز الطفل النشمي عن مقعده قفزة عالية بطاقة لا حدود لها من الغبطة والسرور حينما غمس النشمي محمد شاهر سلة اللبنانيين، وصاح بأعلى صوته العسافي: "أيوااااااااا".
وحينما قلص اللبنانيون الفارق في اللحظات الأخيرة من زمن المباراة حتى وصل إل نقطة واحدة، أخفض الطفل النشمي محمد عساف رأسه حتى كاد ذقنه يلامس صدره، وضم يديه مكتوفتين، وكان الوجوم يفيض من عينيه، في سحابته قطرات من الدموع كادت أن تنهمر لولا ... لولا ... لولا أن النشامى أمسكوا بزمام الأمور في الأنفاس الأخيرة من عمر المباراة، وسطروا فوزا ثمينا على اللبنانيين بنتيجة (87/83)؛ فحلق فوز النشامى بمحمد عساف في فضاء النصر، في سماء الفخر، في أجواء الكبرياء بوطنيته والعزة بأردنيته!
جاء محمد عساف إلى الصالة بكل ما في طفولته من براءة وعفوية ليشجع نشامى كرة السلة، كانت مشاعره الوطنية تتناغم بكل صدق مع أحوال النشامى في مختلف مراحل المباراة، وكانت أحاسيسه الوطنية واضحة جلية في عينيه كلما هاجت أمواج الفرح في صدره عندما يتفوق النشامى في أية مرحلة من مراحل المباراة المثيرة!
ولربما لا يعرف محمد عساف وصفي التل، ولربما يعرفه، فقد فاتني أن أساله هذا السؤال بعدما عرفت أنه في الصف الخامس، لكنني لعلني لا أغالي فيما لو قلت بأنني لمست روح وصفي التل في كيان هدا الطفل النشمي الأصيل بكل ما في جنانه من وطنية عفوية بريئة، ومن انتماء صادق لهذا الوطن الغالي وولاء صدوق لترابه الأثمن من درر البحر.
فهلا كف العديد منا عن الزعيق والنعيق باتهام بعضنا بعضا باغتيال وصفي التل؟ هلا غضضتم النظر عن كيل الاتهامات جزافا لأية جهة باغتيال وصفي التل؟ هلا توقفتم عن إضاعة الوقت سدى في التحقيق والتمحيص لمعرفة من قتل وصفي التل؟
أرجوكم توقفوا عن كل ذلك لأن وصفي التل - الذي ولد في كردستان العراق ليس في إربد كما يظن البعض منا- ببساطة لم يمت! فما زالت روحه المفعمة بالوطنية الصادقة الصدوقة تفيض في صدور الملايين من الأطفال النشامى أمثال محمد عساف!
وكلي أمل بأن جيل محمد عساف وغيره من الأجيال اللاحقة لن تهتم قط في معرفة من اغتال وصفي التل حين يقرأون عنه أو يسمعون به، بل أن تهتم تلكم الأجيال بالمبادئ التي حمل رايتها وصفي التل، وبالفكر الذي استنار به وهو يدير مؤسسات الوطن.
ولربما لا تجانب الصواب تكهناتي فيما لو توقعت بأن تلكم الأجيال سوف تولي جل عنايتها لتحليل شخصية وصفي التل ودراستها بسيئاتها وحسناتها دراسة موضوعية محايدة، لمعرفة السر الكامن في خلود روح وصفي التل في قلوب الملايين من الأطفال النشامى أمثال محمد عساف!