ما حدث من جدل حول ظاهرة التحرش يعكس صورة اخرى غير مفهومة لمجتمعنا، فالذين اندفعوا الى الاصطفاف مع احد الاطرف بحجة ان ظاهرة التحرش غير موجودة اصلاً أخطأوا في هذا الافتراض، كما اخطأوا ايضاً حين توجهوا الى الضحايا بالتأنيب وتجاهلوا التعرض لبعض المنحرفين الذين ضلت اقدامهم طريق الصواب، زد على ذلك ان الذين اختزلوا المشهد في زاوية الدفاع عن النساء اللاتي يتعرضن للاساءة اخطأوا حين أغمضوا اعينهم عن الاسباب الاخرى التي تدفع البعض لممارسة مثل هذه الانحرافات، لا لتبرير افعالهم، وإنما من أجل فهم الظاهرة والاحاطة بها.. وتقديم ما يلزمها من حلول.
غاب عن الطرفين معاً في زحمة الصراع انهما يدافعان عن العفة، وأن بمقدورهما أن يلتقيا على مشترك واحد يحقق الهدف ذاته، كما غاب عن الاعلام واجب توجيه النقاش وادارته، والالتفاف الى المشكلة بدل الدوران حولها، فالدعوة الى العفة لا تتعارض ابداً مع رفض الاساءات التي تتعرض لها المرأة، أو مع ادانة الممارسات التي تخدش الحياء العام مهما كان مصدرها.
اذا دققنا في المشكلة بعيداً عن هذا الجدل الذي امتدّ من الاعلام الى المجتمع، وهو بالمناسبة نسخة مكررة لما يحدث في مجتمعنا اليوم من جدل حول كثير من القضايا والهموم، سنكتشف بأن الاساءة الى المرأة، بأشكالها المختلفة، ما زالت من الامور المسكوت عنها، صحيح أن بعض اخواتنا يتحملن قسطاً من مسؤولية ذلك، سواءً بسبب صمتهن او خوفهن او بسبب عدم اعتبارهن ما يلزم من تقاليد اجتماعية وخروجهن بمظاهر غير لائقة ومستفزة للشباب لكن الصحيح ايضاً أننا – كمجتمع – نتحمل النصيب الاكبر: مراكزنا الاكاديمية التي لم تتحرك لبحث هذه الظاهرة ومناقشتها تتحمل جزءاً منها، وتشريعاتنا التي لم تكن حازمة في معاقبة المخطئين تتحمل جزءاً آخر وخطاب مؤسساتنا الدينية الذي اختصر العفة في النساء فقط يتحمل نصيبه من المسؤولية.. ومناخاتنا التعليمية والسياسية التي افرزت من الناس اسوأ ما فيهم من سلوكيات مسؤولة ايضاً.
من المفارقات الغريبة ان قضية منع” الاختلاط” التي ترفع بالعادة لحماية المرأة من التحرش والاساءة وقد تصل الى مصادرة كل ما يتعلق بها من حقوق، ارتبطت في اذهاننا بمسألة الانحطاط وقد سمعت اكثر من مرة من فقهاء معتبرين ان الاختلاط من اهم اسباب الانحطاط الذي اصاب امتنا، وان ما حدث من فساد في المجتمعات العربية لم يكن ليصل لهذا المستوى لولا الانفلات الذي اتاح للمرأة ان تمارس حريتها دون ضوابط، وبالتالي فان الخوف المبالغ فيه احيانا دفع الكثيرين من الفقهاء وغيرهم الى معاملة المرأة كفتنة وتقييدها بما يلزم من قيود لدرء انتشارها، وحماية المجتمع مما قد يصيبه من انحطاط جرّاء ممارستها بعض ما اقره الشرع لها من حقوق.
في هذا الاطار، حدثت التباسات كثيرة في المفاهيم فالاختلاط المنضبط مثلا يختلف عن الخلوة غير الشرعية، والاحتشام في اللباس يختلف عن النقاب، وممارسة المرأة لعملها خارج البيت قد لا يتضارب مع التزامها بتربية ابنائها، وطهارتها وعفتها وحفاظها على كرامتها لا علاقة له - احيانا - ببقائها في البيت او خروجها الى السوق، ولا احيانا اخرى بلباسها او اختلاطها بالرجال او غير ذلك.. بمعنى ان اختزال العفة والطهارة والالتزام بالدين بالشكليات فقط، غير صحيح، فمواصفات التدين الصحيح تحتاج الى معايير تحاسب الجوهر والسلوك والأثر الطيب، وهي - من حسن حظنا - موجودة في النصوص الصحيحة ولا تحتاج الا لمراجعات واعية من قبل فقهائنا وعلمائنا.. كما فعل محمد عبده الافغاني وابن نبي والريسوني والقرضاوي في عصرنا الحاضر.
باختصار، نريد ان ينتصر الجميع لعفة المجتمع ولعفة المرأة والرجل معاً، لكن هذا الانتصار الواجب يستدعي اولاً ان نتصالح مع ديننا وقيمنا وانفسنا.. وأن نتوافق على حرمة المساس بحريات الناس وخياراتهم، وان نخرج من دائرة الانقسام والصراع الى افق التفاهم والحوار بالتي هي أحسن .
الدستور