قالتْ لي : "لأنكّ بدوي والبدوي ما يبوق "... ثم مضتْ ، قالتها بوفاءٍ وخجل، ولم تعلم أنّ الدنيا تتغيّر ، وأنّ الوجع لا تترجمه اللغات ... البدو يا عزيزتي آخر ما تبقى من النقاء والصدق والفروسية، وإنْ غابتْ المراعي والصحاري وضاقتْ البلاد بالأحرار ، وماتتْ الأصايل ، وثلمتْ السيوف ، فإنّ البداوة حاضرة بقيمها وأخلاقها وثقافتها ، ولا يغرّنكَ دور الحجر ولبس البدلات والربطات والعطر الفاخر ، فإنّ النفوس ما زالتْ تسكنها روح التمرد والطيب ورفض الضّيم ، وشجاعة لا يدانيها الفولاذ صلابة وحرارة ، ورقّة وشاعرّية تشبه الغيّم وأول الندّى، وروح توّاقة للعشق حاضرة كلمّا هزّ القلب ريحا رطبة .
البدوي والبداوة في بلادنا أبناء القبيلة والقبائل، هم من أنتجوا الشهداء فجذبتهم دروب العسكرية مبكرا، ثم حملوا أرواحهم على أكفهم وقطعوا " الشريعة" وهم " يحدون " ، وعندما اشتعل الرصاص والبارود سكبوا أرواحهم ناراً على الأعداء ، لم يهتزّ لهم رمش ، ولمْ يكتب أنّ أحدهم تراجع ، وأنهم عندما اقترب الموت تسابقوا إليه فرسانا وشهداء .
البدو هم من أنتجوا القصائد ، وأنبتت صحاريهم العشاق والفرسان ، البدو رفقاء الربابة والخسارات والوجع ، هل مرّ بكِ اسم نمر بن عدوان وعقاب العجرمي ، وعبدالله اللوزي وزناد البلقا وابن غدير ، هل سمعتِ لفارس عوض ، حتى حبيب الزيودي كان بدويا مسكونا بالبدو وناطقا باسمهم ،وكتب لبناتهم وفرسانهم ،ونثر قصائده ومغانيه كالقهوة السمراء كل صباح .
كلّ شيء في بلادنا يا عزيزتي استبدلوه وحاربوه ، راحتْ المراعي وموارس الباميا والفقوس مغاريب عمان ، وأقاموا مقاهي ومولات ، وزرعوا بلادنا بكل شيء لا يشبهنا ، المهم أنه مستورد وعلى الموضة، ويحاولون ويحاربون الوجدان الأردني المتكئ على كل قيم البداوة والبدو، وكل ما فيها من قيّم وعادات طيبة، حاربوا البداوة حضورا وثقافة ، وربطوا البداوة بالتخلّف وقلّة التعليم والمناطق الأقل حظا ، وجيوب الفقر ، همّشوا كل تفاصيل البدو الأصيلة ، واختصروها بصاج خبز "شراك" في بازار مهرجان ، وبيوت شَعر يجلس السياح فيه ، وشمغ وعباءات رخيصة ، وتاجروا بقيّم البداوة عندما تحوّلت إلى مسلسل بدوي وعين ماء وغزل وغزو ، وبهدلوا لباسهم عندما أصبح يلبسه مضيف يصبّ القهوة السادة على أبواب الفنادق والمطاعم .
البدوي ما " يبوق " عزيزتي ولكن في بلادنا "يبوقون " بكل شيء ، لم يكتفوا أنهم باعوا كل شيء ، الآن يبيعون الوجدان والروح ، ويشلعون آخر ما تبقى لنا من الجذور ، ففي سيبل ٌاقامتهم "لدولتهم المدنية " يجب أن نكتفي بأسمائنا من ثلاثة مقاطع فالعشيرة أصبحت " شتيمة " ومرادفا للواسطة والعنف ، مطلوب أن تكون "مدنيا" و " ليبراليا" حتى قيم الشرف أصبحتْ قيم نسبية ، والدين في نظرهم سبب الانغلاق ومقيد للتحرر ومشجع للغلو والتطرّف ، مطلوب أن تكون أقل حرارة وغيرة وتنحني وتقبّل يد نسائهم من باب المجاملة ، وتحضر ورشات الفنادق ومنظمات "الأن جي أوز" عن مكافحة التصحر والتحرّش وزواج القاصرات.
سأبقى يا عزيزتي بدويا " ما يبوق" ، فإن تغيرّتْ الدنيا لن نتغيّر ، "وإن تبدّلت الأيام حنّا ما تبدلنا "، فكل شيء يباع ويستبدل ، إلاّ القلوب والوجدان فإنّها لا تباع ، سأمضي مثلكِ وسأقبض على جمر بلادنا ، ولكن أنا مؤمن مثل الكثيرين في بلدي أنّ البلاد ربما تتوه ولكن لا تضيع ..!!