في زيارة غير مخطط لها، سافرت إلى العقبة قبل أيام، وركبت البحر أيضا دون تخطيط، كانت «الركوبة» قاربا سريعا يعاني صاحبه من البطالة لقلة الزوار، فمنتصف الأسبوع في العقبة مجدب تقريبا، وأصحاب القوارب يمعنون في عروضهم الإغرائية لكسب قوت اليوم، ولو بعروض سخية، لا تكاد تسد الرمق..
ركبت القارب وشقيقي المتلهف للماء، وفور أن أدار الرجل محركه المجنون، راح قاربه يشق الماء في حركة استدعت إلى ذهني فورا مشهد الحراثة، ولكننا هنا نحرث البحر، وكم كانت مجدية، وممتعة ومذهلة: حراثة البحر، حتى وإن لم نملأه بالبذور، فقد ملأنا المشهد بالإثارة والمتعة والدهشة، وجنينا ثمارا مذهلة من الفرح الطفولي، لم تكن لتخطر على بالي!
-2-
من كان يظن أن حراثة البحر من الممكن أن تجلب كل ذلك الجمال والخير الوفير...؟
نحن نقول لمن يقوم بفعل عبثي أنه «يحرث البحر» لأكتشف عبث هذا الاعتقاد، وحتى سخفه، فالبحر معطاء بلا حدود، و»تربته» الخصبة قابلة للزراعة فعلا، وثمارها مستحقة الدفع فورا، بلا انتظار دورة حياة البذور الاعتيادية، إنه درس كبير تعلمته في لحظات، قلب في رأسي كثيرا من المسلمات، والمفاهيم المعلبة.. وكذا هي الحياة.. أشياء بسيطة يمكن أن تقوم بها، تحسبها سخيفة، أو عبثية، أو حتى مستحيلة، تعود عليك بنفع كبير، ولو امتدت تجربة «حراثة البحر» إلى كثير مما نعتقد أنه عبثي، لتغير الكثير مما يشكل مصدر تعاسة لنا..
-3-
كنت في مزاج سيء، كمن يساق إلى فعل شيء لا يحبه، ولكن فور أن دار المحرك، قفز من صدري طفل معتقل تحت طبقات سميكة من سنين الجد والهم والانشغال بالمشكلات العامة، وهموم السياسة والكتابة والعمل والوظيفة، ومليون مسألة تنغص عليك حياتك، ثم بدا هذا الطفل يعبث بالماء، ويرقب عملية الحراثة باستمتاع وشوق كبير للمزيد، وادركت حينها، كم يفوتنا من أوقات جميلة، وأفعال بريئة، نترفع عنها، وهي مصدر ثري للفرح، وكسر وقارنا المصطنع، فثمة طفل عابث شقي في داخل كل منا، كلما قمعناه أكثر، كنا أكثر تعاسة، وكلما أفرجنا عنه، وأطلقنا له العنان، كنا أكثر سعادة وإنسانية!
-4-
كلما أمعنت في الخروج منكَ، وصلتَ إليك! فأنت بكل ما تراكم عليك من اهتمامات، ومشكلات، وأعمال تقوم بها في مكتبك أو ورشتك، أو في عملك مهما كان، تنسى أحيانا أن تعيش حياتك كما يجب أن تكون، ولهذا عليك أن تخرج منك، بين حين وآخر، تبتعد كثيرا عنك، وعما اعتدت على القيام به، كي تصل إليك، أنت نفسك، قبل أن تدفنها تحت طبقات سميكة من العادات اليومية، التي تفرضها عليك حياتك.. أن تفعل شيئا لم تعتد القيام به، طريقة ناجحة لكسر روتين الحياة وإيقاعها المتكرر، ما أروع ما جاء في حديث نبينا الكريم، عليه صلوات الله وسلامه، مما جاء في صحيح مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَعَظَنَا فَذَكَّرَ النَّارَ قَالَ ثُمَّ جِئْتُ إِلَى الْبَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ الْمَرْأَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَافَقَ حَنْظَلَةُ، فَقَالَ: مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَقَالَ: يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ. وقالوا في شرح ( وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ) أَيْ سَاعَةً كَذَا وَسَاعَةً كَذَا يَعْنِي لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُنَافِقًا بِأَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ عَلَى الْحُضُورِ وَفِي وَقْتٍ عَلَى الْفُتُورِ, فَفِي سَاعَةِ الْحُضُورِ تُؤَدُّونَ حُقُوقَ رَبِّكُمْ, وَفِي سَاعَةِ الْفُتُورِ تَقْضُونَ حُظُوظَ أَنْفُسِكُمْ.
الدستور