على وقع حبات المطر كانت أقدام الأطفال الصغيرة تتراكض نحو الحافلات والمدارس وسط الضباب الكثيف الذي يلف المكان من كل الجهات، يحملون حقائبهم المثقلة، فوق ملابسهم الشتوية، لكنهم كانوا فرحين وقد ابتلت وجناتهم المحمرة عندما داعبتها نسمة رقيقة باردة قادمة من فوق المتوسط، وقد كانت خفيفة الوقع جميلة الاثر تتسم باللطف وحسن المعشر
شتوة تشرين هذا العام جاءت متأخرة نسبياً، حيث طال انتظار الفلاحين والمزارعين لها من أجل أن تغسل زيتونهم، وتزيل غبار الخريف الكثيف الذي لا تخطئه العين فوق الثمار والأوراق ومن أجل إزالة كدر الأيام المختزن في تجاعيد الجبين المقروء صباحاً ومساءً الذي ينطق بأقسى أنواع الهموم المتراكمة بفعل السياسيين العرب، والذي يحفر عميقاً في وجدان البسطاء عندما يتابعون الأخبار عن بعد.
كانت أشجار اللزاب والسرو المنتصبة على جوانب الطرق وفي اعالي التلال تفيض مرحاً وسروراً، وكانت أغصانها تتراقص جذلاً وهي تستقبل خيوط الغيث الرفيعة وملامستها الرقيقة الناعمة التي تنطق بكل معاني الشوق المبرح، والانتظار الذي تشوبه الحرقة، من أجل الامساك بحبل التفاؤل وخيوط الامل، لتعيد الحياة دورتها من جديد.
يتفاوت الناس في حجم التفاؤل وجرعة الأمل؛ فأما الذين يعيشون مع الطبيعة ويستيقظون باكراً وتتفتح عيونهم المتعلقة بالسماء في كل صباح تنتظر الفرج وحسن الطالع ويمسكون بخيوط الفجر الندية مستبشرين بموسم جديد مليء بالخير والبركة لهم ولمزروعاتهم وحيواناتهم، ليسوا كأولئك الذين لا يرون الخبز إلا في واجهات الأفران الزجاجية، ويأتيهم الماء عبر الصنابير الفضية المعلقة بالجدران المصقولة، لا يدرون ما أهمية الغيث وموسم الغلال، ولا يزعجهم سوى البرد القارص الذي يلفح وجوههم عندما يخرجون من أبواب منازلهم نحو السيارات التي تنتظرهم لتقلهم إلى مكان عملهم دون أن تتلوث أقدامهم بالوحل.
كثير من الناس الذين يعيشون في أقفاص المدينة المزدحمة بالمنازل والبيوت المتراصّة، والعمارات المرتفعة التي تحجب جمال الشروق وروعة المغيب، لا يدركون معنى جمال الطبيعة إلا في بعض المناسبات المتقطعة المبتورة عن سياقها، ولا يسمعون همس الشمس عندما تبزغ من قمم الجبال الشرقية، ولا يصغون لكلمات وداعها التي تطلقها عندما تهوى مصفرة خلف الجبال الغربية.
لقد تغيرت المواسم، وقلّت معدلات نزول المطر، وما عادت بوابة الشتاء تفتح كثيراً ولا باكرا ، وما عدنا نسمع بما كان آباؤنا وأجدادنا يحدثوننا عنه من هطول الأمطار بغزارة لبضعة أيام متوالية في كل مرة، ويقولون (لقد انقطع من السماء عرق) وتحجزهم في البيوت فترة ليست بالقليلة، وما عدنا نرى الينابيع الرقراقة، ولا الأنهار المتدفقة، وما عادت أبصارنا تقع إلا على وديانا جافة وسيولا من الماء الأسود الداكن الذي اختلط ببقايا المصانع والمياه العادمة.
ما كان هذا التغير ليحدث لولا ذلك التغير الذي أصاب دواخلنا ووجداننا بالعطب، وما كانت السيول السوداء الداكنة تظهر لدينا لولا سواد قلوبنا وانطفاء جذوة الضياء في صدورنا، وتبدل العلاقات نحو المكر الذي تزول منه الجبال، وطغيان المادة وذبول الروح واهتراء الضمير.
نحن بحاجة ماسة إلى غسل أدران قلوبنا، ومسح طبقات الغبار السوداء الكثيفة المتراكمة على أفئدتنا، وإعادة ربط الحبال مع الله والناس من جديد، من أجل أن نغسل الأرض والطرقات والأشجار، ومن أجل عودة الخضرة إلى مرابعنا وسهولنا، ومن أجل إعادة بناء معاني الحياة الجميلة المليئة بالصدق والتسامح والمحبة وحسن التعامل وصدق الحديث والوفاء بالوعد، لعل الله ينظر إلينا من جديد.
الدستور