من منا الآن لا يحسد أباه إن كان له أب جدير بالذكرى والاعتبار على كونه في العالم الاخر؛ كي لا يسمع ما نسمع ولا يرى ما نرى!
ومن منا لم يردد ما قاله مؤرخون كابن اياس عن الشدة المستنصرية وابن الأثير عن زمنه المبلل بالدمع والدم وهو يتمنى لو انه لم يولد، او مات بالحصبة في سن الثالثة؟
لقد كتبت الكثير عن الديستوبيات او المدن الراذلة مقابل ما كتب عن اليوتوبيات والمدن الفاضلة لكن ما يجري الان ونراه بالعين المجردة لم يحدث ان تجرأ حتى الشاعر ابن الرومي على توقعه، فالناس يمشون على رؤوسهم وهم لا يعلمون، وقد اصابهم ما اصاب قوما من الاعراب ذات يوم حين جاء الرحالة المستشرق نيبور الى بلادهم ومعه الاسطرلاب وحين قال لهم انظروا من خلاله هرعوا وتدافعوا وهم يرددون ان هذا الرجل الغريب قلب كل شيء رأسا على عقب لأن الاشجار بدت لهم مقلوبة وكذلك المنازل والبشر، ولم يخطر ببالهم ان عدسة الاسطرلاب هي التي فعلت ذلك، وان كل شيء في مكانه !
هكذا ايضا تصور الهنود الحمر ان طائرا اسمه طائر الرعد لم يأت، واطلق الرجل الابيض الذي شيّد امبراطوريته على اطلال اكواخهم وجماجمهم اسم الطائر على نوع من السيارات الفارهة، وبذلك يكون قد قتلهم واحرقهم واستولى حتى على اسطورتهم !
لم يحدث من قبل ان حسد الاحياء الموتى لأنهم لم يعودوا هنا، ولأنهم لا يسمعون ولا يشاهدون ما يجري بالصوت والصورة .
فهل يستحق القتلة الساديون والخونة وسماسرة الدم الشكر؛ لأنهم خففوا عنا كثيرا من الخوف من الموت ؟ فالحياة لم تعد عزيزة الا لمن عاش ليأكل فقط، وورث عن جُحا اسوأ ما قاله في حياته وهو ان النار لا تعنيه حتى لو التهمت بيت جاره ومهود الاطفال !
لكن جحا دفع الثمن ولم يسلم من النار ، تماما كما ان اللامبالين وانصاف الآدميين الذين يتجشأون من التخمة وهم يشاهدون الهياكل العظمية للجياع على الشاشات !!
الدستور