بغض النظر عن الجانب الذي تقف فيه في إطار الجدال الدائر هذه الأيام حول الصحافة، لن يروق لك بعض ما سأقوله هنا. ودعنا نبدأ بحقيقة أساسية: الرئيس ترمب يشارك في الهجوم الأكثر مباشرة واستمرارية ضد حرية الصحافة على امتداد تاريخنا. منذ وقت مبكر من حملته الانتخابية، فعل ترمب كل ما بوسعه لنزع الشرعية عن الإعلام ـ فقد هاجمنا على نحو مؤسسي وفردي. وأعتقد أن هدفه من وراء ذلك كان واضحاً: شن حملة منظمة لإثارة الشكوك حول ما إذا كنا جديرين بالثقة، عندما نكتب انتقادات بحق إدارته.
تبعاً لأرشيف ترمب على «تويتر»، فإنه غرد خلال الفترة بين 10 يناير (كانون الثاني) ونهاية أكتوبر (تشرين الأول) عن «الأخبار الزائفة» 141 مرة، لكن تظل إحدى هذه التغريدات مميزة ـ وهي تلك التي نشرها بتاريخ 17 فبراير (شباط) وقال فيها إن «وسائل الإعلام التي تنشر الأخبار الزائفة ليست عدواً لي، وإنما للشعب الأميركي بأسره!» وكانت هذه تحديداً النقطة الرئيسية التي لطالما أكد عليها ترمب. وعليه، فإننا كصحافيين عندما نتناول شيئاً سلبياً يفعله الرئيس، نضر بالوطن.
بعد يومين، كان رينس بريبس، رئيس فريق العاملين في البيت الأبيض آنذاك، ضيفي ببرنامج «فوكس نيوز صنداي»، وعندما سألته حول التغريدة التي أطلقها الرئيس، اشتكى من أنه رغم تناول بالفعل ما فعله ترمب، ولكن: «بمجرد أن ينتهي الأمر، يدور الحديث بأكمله على امتداد الـ20 ساعة التالية حول الجواسيس الروس». وأجبته: «ليس من حقك أن تملي علينا ما نفعله، تماماً مثل أن هذا لم يكن من حق باراك أوباما. لقد ظل يشكو من (فوكس نيوز) طيلة الوقت، لكنه لم يقل أبداً أننا عدو الشعب».
ومع هذا، دعوكم من حديثي، واستمعوا إلى ما قاله ويليام إتش. مكرافين، ضابط عمليات خاصة بالبحرية الأميركية، وتولى مسؤولية مهمتي إلقاء القبض على صدام حسين، وقتل أسامة بن لادن. كان مكرافين قد تخرج في جامعة تكساس بقسم الصحافة. ويعمل حالياً مستشاراً لدى الجامعة ذاتها. وفي أعقاب التغريدة التي نشرها الرئيس، قال لطلابه: «هذا الشعور قد يشكل أكبر تهديد للديمقراطية عاينته في حياتي».
وعليك أن تتذكر أن هذا الرجل شارك في محاربة الاتحاد السوفياتي، وقاتل ضد الإرهاب الراديكالي. وعندما سألته عن هذا التعليق الذي قاله، أجابني: «هذه التهديدات أسهمت في توحيد صفوفنا. لقد أقسمت أنا والرئيس على احترام الدستور. وينص التعديل الأول في الدستور على حرية الصحافة. وعندما يقول رئيسٌ إن الإعلام يمثل عدواً للشعب، فإن هذا في رأيي يقوض الدستور. لذا، أعتقد أن هذا تهديد هائل لديمقراطيتنا».
في الواقع، اتضح أن مكرافين ربما قلل من خطورة التهديد، فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مجلة «بوليتيكو» منذ أسبوعين أن 46 في المائة من الناخبين يعتقدون أن معظم المؤسسات الإعلامية الإخبارية الكبرى تختلق الأخبار التي تقدمها عن ترمب. وخلص استطلاع أجراه «معهد نيوزيم» في مايو (أيار) إلى أن 23 في المائة يعتقدون أن التعديل الأول من الدستور «يتمادى على نحو مفرط». وقال 74 في المائة إنهم يعتقدون أن «الأخبار الزائفة» لا ينبغي أن تحظى بحماية التعديل الأول.
ومع هذا، يبقى هناك جانب آخر لهذا الجدال. والحقيقة أنه حتى إذا كان ترمب يحاول تقويض الصحافة من أجل أسباب خاصة به، فإنني أعتقد أن حديثه عن وجود تحيز في الإعلام ـ أو عدم إنصاف ـ يملك بعض الوجاهة.
على سبيل المثال، في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 بعد يومين من الانتخابات، كانت هذه الفقرة الأولى في موضوع نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» على صفحتين: «سيطرت حالة من الذهول على المؤسسة السياسية الأميركية، الأربعاء، مع شروع القيادات بكلا الحزبين في محاولة استيعاب فكرة قضاء أربع سنوات مع وجود دونالد جيه. ترمب في البيت الأبيض ـ سيناريو كان يبدو من المتعذر تخيله ذات يوم، والآن سقطت فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها وخصومها لتبدأ جميعها فترة من الغموض إزاء السياسات التي ستنتهجها إدارته وتأثيرها».
في 16 فبراير، كانت الفقرة الأولى في «سي بي إس إيفننغ نيوز»: «كان يوماً مكدساً بالتصريحات الرئاسية المنفصلة عن الواقع». وبعد أسبوع، كان العنوان الرئيس: «مشكلات الرئيس اليوم لم تعد مع الإعلام، وإنما مع الحقائق».
وفي الثاني من أغسطس (آب)، قال مراسل «سي إن إن» لدى البيت الأبيض: «لدى البيت الأبيض عقدة نفسية تجعل تركيزه منصباً على فئات ثلاث دون غيرهم: المكسيكيين والمسلمين والإعلام. وعلى ما يبدو، فإن سياساته مصممة لسحق واحدة على الأقل من هذه المجموعات».
أنا على ثقة من أن بعضكم يتفق تماماً مع مثل هذه العبارات والعناوين، لكن عليكم أن تسألوا أنفسكم بأمانة: هل تنتمي هذه العبارات إلى الصفحة الرئيسة من الصحيفة؟ أو تصلح عنواناً لنشرة أخبار مسائية؟
أعتقد أن بعض زملائي ـ في الواقع الكثير منهم ـ يرى أن ترمب قد تمادى كثيراً في محاولة سحق الإعلام، ويرون أن ذلك منحهم أنفسهم مبرراً ليتجاوزوا هم أيضاً في الرد عليه. ومع أن المرء قد يشعر بالفعل بإغراء قوي للإقدام على هذا السلوك، فأنا أراه خطأً فادحاً.
نحن الصحافيين لسنا جزءاً من اللعبة وإنما نحن مراقبون نحاول الاضطلاع بدور الشاهد المحايد. بيد أن ذلك لا يعني أننا منفصلون عما يجري، ذلك أنه إذا أقدم الرئيس ـ أو أي شخص آخر نتولى مسؤولية تغطية أخباره ـ على قول شيء ليس صحيحاً أو فعل أمر يثير الشكوك، فإن بمقدورنا ـ بل يتعين علينا ـ الكشف عن ذلك.
إلا أن الأمر الذي لا ينبغي لنا فعله هو التحول إلى لاعبين داخل الميدان، والدخول في مباراة قدح وذم، مع أولئك الذين نتولى تغطية أخبارهم ـ فهذا ليس الدور المنوط بنا. وحال إقدامنا على ذلك، فإننا بهذا نتخلى عن مكانتنا الخاصة داخل ديمقراطيتنا.
الشرق الاوسط - خدمة «واشنطن بوست»