ثمة تشابه بين سماء الصيف وسقف السجن، كلاهما أجرد الملامح لا علامات فارقة فيه ، تثيران الضجر لمن ينظر
إليهما ليقتل الانتظار، فيقتله الانتظار..
نحن محكومون كذلك بالانتظار ، مثل أم تقف خلف حاجز صالة القادمين تراقب المارين بعرباتهم ، تفتش بين
الوجوه عن ابنها المغترب الذي قال لها انه قادم على هذه الرحلة ، تدقق بسمعها أكثر في وقع أقدام المسافر
الأخير هل هي مشيته؟ لا تستطيع أن تجزم ، يخرج الشرطي يغلق الحاجز باستراحة قصيرة للرحلة القادمة، تخلص
وجبة العائدين و لم يحضر..
**
نحن الواقفون في صالة العطش منذ تشرين الأول ، ننتظر كل المنخفضات القادمة على خطوط الغيم ، نفتش في وجوه الأيام المسافرة ، ندقق أكثر في وقع أقدام الريح هل تحمل رائحة الشتاء وعرق الأرض المشتاقة؟؟ فتطلق ريح ضجرة زفيرها وتغلق حاجز الانتظار لشهر قادم..
**
في تشرين كانت تبتل واجهات بيوتنا الطينية مثل أبٍ تعب، ويصيب المطر أذرع الخشب و»قرامي» الشجر، نسحبها إلى داخل بيت الطابون لتنشف قليلاً حتى يأتي دورها في الاحتراق،الحمام ينفض ريشه المبتل يهدل بين فاصلي مطر ، في تشرين كان ينبت الصمغ اللؤلؤي على سيقان شجر اللوز يذوب من الشتوة الأولى فيثير فينا شهية اللعب..السهول حمراء كجبلة حناء ، والتراكتورات عائدة من وظيفة الحراث الطويل وقد علقت بأصابع العود كُتلٌ من الطين الطري ، على جوانبها أكياس الخيش الفارغة وبقايا البذار وأصبعين من "حلاوة الحراثين" و"علبة سردين حار"..
في تشرين كانت تجمع الصبايا الغسيل باكراً ، ومن شرع في بناء غرفة إضافية لغرفتيه المصفوفتين كان يغطي
أسمنته بالأكياس والشوادر خوفاً من ان ينتزع هواء المنخفض كل الأغطية ويبلل الاسمنت ..
وكنا نشاهد أيضا «الجراكن» تصطف على الكازيات تحسباً لمنخفض قادم..
كنا ننتظر النشرة الجوية أكثر من نشرة الأخبار لنشاهد جمال موسى أو محمد البطاينة في الأبيض والأسود ليشيران لنا حول المنخفضات التي تتمركز حول قبرص والفرصة المهيأة لسقوط الأمطار..
في الليالي الباردة المبتلة بماء المطر كان لطعم «الهريسة» الحاضرة في أكياس الورق طعم مختلف ،والاجتماع في غرفة العيلة الوحيدة طعم مختلف، والفوجيكا المتوهجة حضور مختلف، وسكون الأمهات طعم مختلف ..
و"الحرامات" المخططة بألوان عريضة و "شرابيشها" تدغدغنا عند النوم حضور مختلف..
يا ايها الشتاء المغترب ، هذه رسالة شوقنا اليك..فاقرأها متى شئت وكيفما شئت وقرر موعد قدومك..
يا أيها الشتاء المغترب لا تطل وقوفنا في صالة الانتظار.. فقلوبنا عطشى.. وأيامنا تقلع كل مساء على مدرج اللا عودة..
يا أيها الشتاء المغترب كن أبا مثلنا واشعر بشوقنا...
الرأي