عمون- رواية لابتسام شاكوش
في الخامس عشر من آذار, سنة ألفين واثني عشر ميلادية, اصطفت الآليات العسكرية على حافة جوبة شرّيفة, موجهة نيرانها إلى جهة الشرق, أولى طلقاتها اصطدمت بجدار المسجد العثماني, لم تفعل شيئا – الطلقات – بل أضافت إلى الجدار ثقوبا جديدة, اصطفت إلى جانب ثقوب قديمة, أحدثتها آليات مشابهة اصطفت في زمن سابق في الأماكن ذاتها, رمت نيرانها بالاتجاه ذاته, حينئذ كان يحيط بها رجال يرقصون الدبكة, ونساء يزغردن, هم آباء وأجداد الراقصين والمزغردات الآن, يئز الرصاص طائرا على الخط ذاته, فيسقط شهداء, هم أحفاد من استشهدوا من قبل, كان ذلك 1919كانت تلك الآليات لجيش الاحتلال الفرنسي , وهذه الآليات لجيش الأسد.
الفصل الأول
انجلت الغارة الأولى على جبل صهيون بعيد المغرب بقليل, كان نهارا ممطرا بغزارة, اختلط فيه هزيم الرعد بأصوات انفجارات القذائف الثقيلة, من المدرعات التي تحيط بالقرية والمنتشرة في شوارعها, كما امتزج صوت حبات المطر تطرق الأبواب والنوافذ وسطوح البيوت بأزيز الرصاص, وضاع دوي الصواعق في تلك المنطقة الجبلية بين جلبة القنابل يلقي بها الجنود كيفما اتفق, لزرع الرعب و إخماد الثورة في النفوس الغاضبة.
انفجار كبير زلزل تلك القرية وهز جدران بيوتها, ارتفع بعده عمود من النار طويل, من منزل خليل درويش, انتهى بدخان أسود, تماهى مع الغيوم الثقيلة, وظلت الأمطار تهطل بغزارة لم تشهدها المنطقة من قبل, لكن تلك الأمطار على غزارتها لم تتمكن من إطفاء الحريق الذي التهم منزل الأستاذ رشيد, والد خليل, بكل ما فيه من أثاث جميل أنيق, تعبت الأسرة على امتداد خمسين عام في جمعه وترتيبه, وأتت على المكتبة التي تحوي مئات الكتب, بلغات ثلاث, كان الأستاذ رشيد يتقنها قراءة وكتابة ومحادثة, كما أفنت تلك النيران المشغولات اليدوية والمطرزات التي اشتهرت بنات الأستاذ رشيد, أخوات خليل, بإتقان صنعها.
انجلت الغارة وانقضى النهار, لكن النار لم تنطفئ في ذلك المنزل الذي تحول إلى جمرة كبيرة, وظل الدخان يتصاعد من جنباته, أبيض تارة, أسود تارات, بنفسجيا بين هذا وذاك, وراح من بقي من سكان القرية يحمدون الله على أن الأسرة غادرت القرية قبل ذلك بيوم واحد.
هل كانت غارة؟ أم حرب؟ أم اجتياح؟ في الحقيقة كان كل هذا, مئات السيارات العسكرية والمدرعات دخلت القرية الآمنة الوادعة من محاورها الأربعة, نزل الجنود منها وانتشروا انتشار الجراد في الأزقة والحارات والدروب, اقتحموا البيوت بهجوم يندى له جبين المغول والتتار, نهبوا ما خف حمله وغلا ثمنه, وحطموا ما عجزوا عن حمله من نفيس الأثاث والأدوات الكهربائية, عبوات زيت الزيتون التي تتسع لعشرات الكيلوغرامات, والتي تنتجها تلك القرية وتحتفظ بها لمؤونة أسرها, أراقوها على المقاعد والأسّرة والسجاجيد, فتحوا الخزائن بعثروا الملابس على الأرض وتبولوا فوقها, ثم انصرفوا مع غنائمهم مع بداية الليل.
أحمد الشب رجل سبعيني, ضئيل القامة يصبغ شعره بالأسود, أرسل زوجته مع أبنائها إلى منزل ذويها في مدينة اللاذقية, منذ بلوغه الانذار بهذه الغارة, وبقي وحيدا في منزل كل أثاثه حصير وبضع مساند من القش, وبعض الأشياء التي لا تتغني عنها اية أسرة فقيرة في العالم, لم يرافق زوجته في رحلتها, فهناك في الطابق السفلي من الدار, أبقار هي كل ثروته ومصدر عيشه, لابد من اطعامها وحلبها في كل صباح ومساء.
وقف العجوز ذاهلا في شرفة بيته يرقب ما يجري, كان العساكر بكامل لباسهم الميداني يركضون بجنون تحت المطر الغزير, يركلون أبواب البيوت, يخلعونها, يدخلون الزرائب ومخازن العلف, يفتشون, يحرقون, يخربون كل شيئ, يطلقون رصاصهم عشوائيا في كل الاتجاهات, ثم ينسحبون ليدخلوا حارة أخرى, يكررون فعلهم, على خلفية موسيقية من رصاص بنادقهم, وقذائف مدافع زملائهم, التي اصطفت أمام منزل خليل درويش, تحت نظر العجوز الذاهل في شرفته.
انتبه اليه أحدهم فأشار إلى رفاقه, تبعوه جريا على السلم الحجري الضيق المتسخ, اقتحموا الأبواب وأحاطوا بالرجل موجهين اليه فوهات بنادقهم
- أخرج ما عندك من سلاح فورا
- هذا بيتي, فتشوه وخذوا منه ما تريدون
- أخرجها بنفسك وسلمها لنا, اياك أن تتعرض لغضبنا
- لن أتحرك من مكاني, البيت أمامكم فابحثوا فيه عن غايتكم
هدوء الرجل وبرود أعصابه أربكت قائد المجموعة, تأتأ وفأفأ, تهدد وتوعد, ثم أمر جنوده بمغادرة المنزل والخروج من الحارة, وظل العجوز يرقبهم من شرفته, حتى غابوا عن نظره متجهين إلى منزل الأستاذ حسين ديب, لكن صوت رصاصهم وصياحهم لم يغب, بل اشتد وعلا, في حين اقتربت مجموعة أخرى من الجنود قادمة من ساحة الواطية, على وقع خطى سابقتها, خلع أفراها الباب الحديدي لمنزل أم تركي, وانتشروا داخله, عندئذ تراجع أحمد الشب عن شرفته وقد ابتل جسده بعدما ابتلت ثيابه بماء المطر, وصار يرتجف من شدة البرد, دخل المنزل ليستبدل ثيابه بأخرى جافة, وليكمل متابعة المشهد من وراء زجاج النافذة.
فات النهار, لا أحد يعلم كيف انقضى, ولا كيف غربت شمسه من وراء الغيوم الدكن والمطر الغزير, الذي لم يتوقف لثانية واحدة, ولا توقف إطلاق الرصاص, ولا خمدت النيرات المشتعلة في منزل خليل درويش, بل تحولت من اللون الأحمر إلى الأصفر المبيضّ, ثم الأزرق, مما جعل من تبقى في القرية من سكانها يتساءل: أية مواد هذه التي تحترق داخل المنزل؟ وأي نوع من التفجرات زج فيه لتشتعل بهذه الألوان الغريبة؟
بدأ الظلام يلف القرية بسرعة رهيبة, مستمدا بعض ظلمته من الغيوم التي تركت سماءها وتنزلت إلى الأفق الأدنى متعجبة مستكشفة, توقف إطلاق النار, فما عاد يسمع سوى بعض الرشقات تطلقها فلول الحملة أثناء مغادرتها القرية, لتؤكد وجودها وتثبت تهديدها ووعيدها, في حين بدأت سيارات الجيش ومدرعاته بالعودة أدراجها, محملة بالغنائم والأسلاب, ووقف سكان قرى خافلة والرطيلية وبزفت الواقعة على طريقها إلى ثكناتها, يتفرجون بصمت, ويتلمسون رؤوسهم, منتظرين دورهم, ليصيبهم مثل ما أصاب جيرانهم.
لم يرد سكان القرية على كل تلك الحرب برصاصة واحدة, كانوا يفضلون بقاء هذه المنطقة هادئة آمنة, برغم حملات الاعتقال التي سبقت هذا الاجتياح, منصتين لكلام كبارهم وعقلائهم, بألا يشعلوها حربا بينهم وبين جيرانهم في القرى العلوية المحيطة بهم, والتي ضربوا صداقة مع كثير من رجالها, يبيعون لهم ويشترون منهم, لعلمهم أن شرارة الطائفية لو قدحت هنا, ستضرم نارا تأتي على البلاد والعباد, ولن تنطفئ جمرتها الا بعلم الله, هذه ثورة, شعب يريد إسقاط نظام شمولي مخابراتي جائر, وليست حربا طائفية, برغم هذا, كانت حصيلة ذلك النهار ثلاثة شهداء من نخبة شباب القرية.
بدأ الرجال بالخروج الحذر من مخابئهم, بملابس يسيل منها الماء, اذ اضطر بعضهم للاختباء في ظلال أشجار لم تستكمل كسوتها الجديدة من أزهار وأوراق الربيع, أغصانها شبه العارية لا تمنع حرا ولا مطرا, وآخرون اضطروا للاختباء في أنفاق تتجمع فيها مياه السيول قبيل انصبابها في السد, أو في مجاري الأنهار المحيطة بالقرية, أما أحسنهم حظا فهم من تمكنوا من الوصول إلى الكهوف في بطون الجبال, حيث أمضوا نهارهم في إعادة استكشاف ما يعرفون من تفاصيلها...في مغارة العليّة اجتمع عدد منهم, توزعوا بين أسرة منحوتة بالصخر, وتأملوا رفوفا حجرية أعدّ بعضها لوضع السراج, وبعضها لوضع أشياء أخرى, وفرنا للخبز يوقد بالحطب, يخرج دخانه من مدخنة منحوتة أيضا بالصخر, الى ظاهر الجبل, هذه المغارة كانت ملجأ لأجداد لهم في الملمات, كان آخرها أيام الاحتلال الفرنسي, حيث بدأت المعارك بمعركة (بزفت) يوم استقبل رجال الصهاونة الحملة الفرنسية القادمة من البحر ودحروها في معركة هائلة, في ذلك الحين جرت معاهدات بين كبار رجال صهيون ورجال القرى العلوية على الوقوف صفا واحدا لصد الهجوم الفرنسي, لكن تلك المعاهدات لم تصمد سوى أيام قليلة, إذ انضم العلويون الى صفوف المحتلين الغزاة, واجتاحوا القرية مسلحين بالسلاح الفرنسي, نيابة عن جنودهم, كمثل اجتياحهم لها هذا النهار.
وصل الرجال بعد انحسار الغارة إلى الساحات والمساجد يتفقد بعضهم بعضا, دفنوا شهداءهم ورجعوا إلى البيوت لاستبدال ملابسهم, ومناقشة الوضع فيما بينهم, واضعين أسوأ الاحتمالات لما هو قادم في الأيام القريبة الآتية.
كان ذلك يوم الخميس الخامس عشر من شهر آذار من عام الفين واثني عشر, هدأ المطر بعد العشاء وتقطعت السحب, انكشفت بقع من السماء, فأطلت النجوم من فرجات الغيم تنظر إلى الأرض بصمت, تعبر عن دهشتها بوميض متقطع ثم تعود للاختباء وراء السحب الراكضة عبر الأفق, فزعة من هول ما رأت, عشرات الأبقار والأغنام والخيول, وحتى الكلاب, خرت مضرجة بدمائها صريعة الرصاص, وبعضها ما يزال يتخبط بآلام صنعتها رصاصات استقرت في رؤوسها وأحشائها ولم يسعفها الموت بالراحة.
هدأ صوت الرصاص, ما عاد يسمع في الجو سوى أصوات مبهمة بعيدة المصدر, توقف هطول المطر فجاء أحمد الشب إلى بيت أخيه الأكبر يطلب الدفء والأمان, ففي البيت ليس سوى العجوز وابنتيه, وأم حليمة مع أطفالها, سهر الجميع في غرفة واحدة أمام مدفأة الحطب, التي لم تخمد نيرانها, ولم تستطع تدفئة عظام العجوزين, التي نخرتها الثياب المبتلة طوال النهار, برغم حرارة حطب الزيتون والسنديان المشتعل في جوفها, تناولوا عشاء خفيفا من حساء العدس, ثم شربوا الشاي, وجلسوا يتحدثون, بل يستمعون لحديث العجوزين.
بدأ الرجلان يتبادلان حديثا عاديا يتناول الحياة اليومية متجاهلين ما حدث, في محاولة لبث روح الأمان, بعد نهار لا يشبهه نهار, بينما كان الأطفال يلتصقون بأمهم, يلجمهم الرعب ويطفئ بسماتهم, برغم محاولات الجميع لإخراجهم من حالة الرعب التي شلت ألسنتهم وأجحظت عيونهم.
قال أحمد الشب: حكايات أبي ما تزال ماثلة في خاطري, حية كأني أسمعها الآن, وأشاهد في خيالي أحداثها مفصلة, في خيالي؟؟ بل اني أشهدها حقيقة وأعيش أحداثها حقيقة واقعة, حدثني أبي بأنه كان شابا يوم تعرضت صهيون لمثل هذا الهجوم, وهذا الاجتياح, ما اكتفى المهاجمون يومها بجولة واحدة, بل توالت هجماتهم , يحرقون فيها وينهبون ويقتلون, مما اضطر الرجال إلى إجلاء النساء والأطفال والدواب إلى جبل الزاوية في الشرق قريبا من ادلب, أخلوا القرية من سكانها ورجعوا ليحاربوا دفاعا عن أرضهم وشرفهم.
- هل سنترك بيوتنا ونهاجر يا عمي؟ سألت أم حليمة.
- ليس بعد يا روح عمك, نأمل أن يعود الغزاة إلى تحكيم العقل, ويأخذوا العبرة من التاريخ.
- لو اعتبروا لما رجعوا بهذا الشكل الوحشي الذي رأيناه هذا اليوم.
- كان هجومهم في الماضي أكثر وحشية, أحرقوا بيوتا بسكانها, ودفنوا الرجال مقيدين أحياء.
مدت أم حليمة ذراعيها بلاوعي وشدت إليها أبناءها, تحميهم من خطر يتهددهم, تذكرت الهياكل العظمية التي اكشفها خليل في باحة داره حين كان يحفر مكان عمود جديد ليمد شرفة البيت أمتارا نحو الشرق, بعد متر واحد عثر على جمجمة, تأنى بالحفر ووسع دائرته, ليكتشف ثلاثة هياكل عظمية في وضعية الوقوف, مقيدة أرجلها بسلسلة حديدية واحدة, الجثث لا تقف, لابد أن أصحابها قد دفنوا أحياء, سأل أحد العجائز تفسيرا لما رأى فأخبره أنهم افتقدوا ثلاثة رجال يوم هاجروا من صهيون في بداية الاحتلال الفرنسي ومشروع إقامة الدولة العلوية, وضاع أثرهم, لا بد أن هذه الهياكل تعود لهم, صارت هذه الهياكل حديث القرية لسنوات تالية, واستفزت الشباب للبحث عن حقائق ما جرى في تلك الفترة, والذي لم يدون منه شيء سوى قصائد يحفظها بعض من عجائز القرية, أترانا نعود الآن الى مثل تلك الحقبة من التاريخ؟ هل قرر التاريخ إعادة الأحداث بنا؟ أحكمت المرأة ذراعيها حول ولديها خائفة هلعة, وذرفت عيناها دموعا صامتة, سقطت إحداها على وجه ابنتها حليمة, ذات السنوات الثمانية, المتمددة قرب المدفأة, واضعة رأسها في حجر أمها, رفعت الصغيرة رأسها بهلع تنظر في الوجوه
- أمي..أنت تبكين
- لا يا حبيبتي, مدفأة الحطب تطلق دخانا طرف عيني
- لماذا لم تطرف عيوننا كلنا؟ بل أنت تبكين, هل سيحرقوننا؟
- من هم يا صغيرتي؟ سأل العجوز
- هؤلاء الذين تتحدثون عنهم
- نحن نحكي حكاية يا حليمة, ألا تريدين سماع حكاية قبل النوم؟
- هذه ليست حكاية يا جدي, أخبرتني الجدة أم علي بأنها كانت في مثل عمري, وأنها عاشت رحلة المهاجرة
- يجب أن يعرف الصغار ما يدور حولهم يا أخي...تدخل الحج محمد
- سيكبرون ويعرفون, دعهم لطفولتهم يا أخي...حرام ..
ران الصمت, كانت هسهسة النار وحدها تقطّع السكون الرهيب, العيون تدور في الفراغ وكل من الساهرين غارق في بحر منفصل من الأفكار مظلم عميق, توهجت الشمعة باعثة مزيدا من النور, معلنة عن نزعها الأخير, تنبهت عائشة, فقامت تتلمس طريقها عبر الظلام إلى خزانة المطبخ, حيث تختزن كمية من الشموع خبأتها لمثل هذه الظلمة, فانقطاع الكهرباء شيء عادي على امتداد القرى والمدن السورية, اعتاد الناس عليه منذ سنوات, بذريعة التقنين, اذ ينقطع التيار في السادسة صباحا ويستمر إلى الثانية عشرة ظهرا, ثم يعود فينقطع في السادسة مساء حتى منتصف الليل, لكنه يطبق الآن على هذه القرية كنوع من العقاب, كان سكان القرية يطلون من نوافذهم وشرفات بيوتهم, القديمة الضيقة, المحكومة بقوانين البلدية, والتي لا تعطي رخصة للبناء أو الترميم الا مقابل مبالغ باهظة يعجز عنها فقرهم, ويفضل بعضهم العيش في البيوت القديمة المتهالكة, على دفع مبالغ تذهب الى جيب رئيس البلدية, وجيوب أسياده الذي وضعوه في هذا المنصب, ينظرون بغيظ إلى القرى العلوية المحيطة بقريتهم, والتي لا تخضع للتقنين, تتلألأ المصابيح الكهربائية في شوارعها الفسيحة وساحاتها, وفي نوافذ قصورها, بينما يلف الظلام الدامس قريتهم في معظم ساعات الليل, تلك القرى أبناؤها مقربون من السلطة, معظمهم ضباط في الجيش والمخابرات, وهنا وزير أو معاون لوزير, لا ينبغي ان تقطع عنهم الكهرباء, بينما منع أبناء صهيون من دخول الكليات الحربية بمختلف اختصاصاتها, ومن المناصب العليا, فترى الشهادات الجامعية مصلوبة على الجدران الباردة,تصرخ في وجوه أصحابها كل حين: أنتم المنسيون, حظكم من الدولة المراقبة الأمنية فقط, على كل حركة لكم وكل سكون, على كل كلام وكل صمت, على كل ما تفعلون ومالا تفعلون, على ما يدخل جيوبكم وما يخرج منها, على ما تتمازحون به من هرج الكلام في ساحاتكم ومساجدكم وبيوتكم, كانت هذه المراقبة تتم عبر مخبرين زرعوا بين الرجل وأخيه, بين الرجل وظله.
لكن أهل هذه القرية لا يعبؤون بشيء من هذا, استغنوا عن الدولة وعن خدماتها, أنزلوا شهاداتهم عن صلبانها, أودعوها أدراجا مظلمة, واستفادوا من كل ما هو في متناول أيديهم من مصادر الرزق, اشتغلوا في الزراعة فأنتجت أرضهم أجود أصناف الفواكه والخضار والزيتون, وفي تربية الأبقار الحلوب, وصنعوا الفحم من خشب الغابات المحيطة بقريتهم, بل تجاوزوا حدود قراهم ليدخلوا حرم القرى العلوية. يصادقون فقراءها, فالفقر نسب , أو يعادل النسب في بعض الظروف, يشاركونهم قطع الحطب وصنع الفحم, يتعاونون معهم على التعامل مع حراس الغابات, يخبرونهم بمواعيد الدوريات ليبتعدوا عن مواجهتها, أو ليقدموا الرشوة لأفرادها, يراهم أهل تلك القرى فينسحبون بصمت أمام شجاعتهم وجرأتهم, يدخلون بيوتهم ويغلقون أبوابها, ما استطاعت سنوات القمع والقهر والافقار, ولا استطاعت ضغوط فروع الأمن بكل ثقلها النيل من جبروتهم وشجاعتهم, أو زرع الفتنة فيما بينهم, نعم لقد جندت فروع المخابرات أشخاصا منهم كمخبرين, ينقلون لها ما يدور بين الجدران وخلف الجدران, لكن هؤلاء معروفون, مكشوفون للجميع, يعاملونهم كما يعاملون كلابا جرباء, يقصونهم عن مجالسهم التي يقيمونها في الحقول وحول المشاحر, على كتف الوادي أو في ساحة الواطية, وعلى مرتفع قبر غزيل, وحين ينحشر بينهم أحد المخبرين, يتركون كل الأحاديث ويجعلونه مادة لسخريتهم, وما أبرعهم بصياغة الطرائف والسخريات, يضحكون, دوما يضحكون, فيضطر للانسحاب من بينهم ذليلا مهانا, ليتابعوا ما انقطع من أحاديثهم الجادة.
- أمي أنا جائعة
- ماذا تشتهين يا صغيرتي؟
- لا أريد شيئا الآن...أمي ..هل سنجوع ونأكل الخرنوب وثمار البلوط كما حكت لي جدتي؟؟
- لا حول ولا قوة الا بالله
******
الفصل الثاني
- اسرعي يا حليمة...اجمعي أشياءك واسبقيني إلى السيارة
ركضت حليمة تحمل حقيبة كتبها وتحتضن دميتها, خطوتين ثم عادت إلى أمها تسألها
- إلى أين نذهب يا أمي؟
- ....
- هل سنزور بيت عمي سعيد في اللاذقية؟
- اسرعي وبلا أسئلة
- لماذا نزورهم في الليل؟ سنجد بنات عمي نائمات ولن يلعبن معي
- دعي حقيبة الكتب هنا...خذي هذه الحقيبة واسبقيني إلى ساحة القرية
جرجرت حليمة الحقيبة الثقيلة خطوات, أدركها عمها أبو عبيدة, فحمل عنها الحقيبة بيده, وحملها هي على ذراعه الآخر ثم ركض باتجاه شاحنة تتوسط الساحة, الساحة تغص بالبشر, رجال ونساء وأطفال, من هؤلاء؟ من أين جاؤوا؟ إلى اين يذهبون؟ أسئلة لم يجب عليها العم ابو عبيدة, بل وضع ابنة أخيه في صندوق الشاحنة , ثم عانقها بحرارة لم تعرفها من قبل, بلل وجهها بشيء ما, جعلها تجهش بالبكاء, أوصاها بطاعة أمها و بألا تبتعد عنها أبدا.
- إلى أين نذهب يا عمي؟
- هل يذهب كل هؤلاء الناس معنا إلى دار عمي سعيد؟ لماذا نركب الشاحنة ولا نركب الحافلة مثل كل الزيارات؟؟ أين أمي؟؟
أسئلة متلاحقة كان ترشقها الطفلة الباكية , لم يجب أبو عبيدة على أي منها, فكت حليمة ذراعيه عن وسطها وابتعدت لتمسح دموعها ولتنظر في وجهه, كانت عيناه غارقتين بالدموع.
- انت تبكي يا عمي؟ وهل يبكي الرجال؟
- لا يا صغيرتي, هو شعرك الجميل دخل عيني فطرفها
- إلى أين نذهب؟
- إلى أمان الله
- أخبروني إلى أين نذهب؟ هل سنشترك في المظاهرة؟ هل قتل عبد القادر السوسي من جديد؟
عام بكامله مضى على تلك الحادثة, وما زالت راسخة في ذهن حليمة الصغيرة كما في أذهان الآخرين من أبناء المنطقة,عبد القادر السوسي كان مدير المالية في الحفة, رجل بسيط مسالم, يبحث دائما عن سلته ولا يريد العنب, يكتفي من وظيفته بمرتبه, وينفق ما يتبقى له من وقت في مزرعة له, قريبة من قرية قبر العبد, ما ورث أرضها عن أبيه, فأبوه كان فلاحا بسيطا مدقع الفقر, بل استأجرها من أرملة ذات عيال صغار, اذ لا طاقة لها على استثمارها, استأجرها و أنشأ فيها مشتلا للغراس, ينتج كل أنواع الأشجار التي تجود زراعتها في تلك البقعة من الأرض, كان جل حديثه في مجلسه مع أصدقائه يدور حول تلك المزرعة, والأساليب التي يتبعها في العمل, والأدوية الزراعية والهرمونية التي يستخدمها في عمله, ما كان يظن من يستمع لحديثه أنه يشغل هذا المنصب الهام في وزارة المالية.
عبد القادر تخرج من كلية الحقوق مع زميل له من قريته, أصر الزميل على العمل في المحاماة, قدم له عبد القادر النصيحة فما استجاب, المحاماة مهنة تتطلب شخصية قوية صدامية نفتقر أنا وأنت لها, يكفينا من الحياة وظيفة عادية, لا تظنن أبدا أنك تستطيع إحقاق الحق بفهمك للقانون, هذا بلد لا يعترف بسيادة القانون, الحق للأقوى, وللمقرب من دوائر المخابرات, الحق لمن كان مدعوما من أحد أفراد الأسرة الحاكمة, أو أقاربهم, الحق لمن يملك المال فيرشو القضاة, لكن الصديق لم يستجب, وذريعته أنه لا يجب الظلم ولن يرضى به لموكليه, وبأنه لن يقبل رشوة من الخصم كائنا من كان, الرشوة تقدم للقاضي يا صديقي, فيفصل بالقضية لصالح من دفع, لم يقبل النصح, فكان أكثر المحامين الذين عرفتهم الحفة فشلا, بينما أخذ عبد القادر شهادته وتقدم بها إلى عدة وظائف, وقذف به حظه إلى دائرة المالية.
عبد القادر كان بعثيا, منساقا مع التيار, انتسب إلى حزب البعث مثلما انتسب الملايين غيره من أبناء سوريا مجبرين لا مختارين, قدمت لهم استمارة الانتساب بشكل جماعي ليوقعوا عليها, ولم يسمح لهم بقراءة محتواها, وقعوا, ثم بارك لهم معلميهم الانتساب الى حزب البعث, مبشرين إياهم بمستقبل آمن, فالأفضلية في دخول الجامعات, وكذلك في استلام الوظائف هي دائما للبعثيين, والإدارة في كل الدوائر لا بد أن تكون في يدهم, فمن الطلاب من استسلم للقرار لا مباليا بنتائجه, ومنهم من اعترض, ثم رضخ, تحت التهديد بالطرد من مدارسهم و جامعاتهم, وحرمانهم من وظائف الدولة, رغم هذا كان عبد القادر يجر ذيول صمته ليحضر كل الاجتماعات, رهبة لا رغبة, ويردد ضاحكا بصورة مكتومة - حين يسأله أبناء قريته عن سر هذا الحرص على الحضور- بيت شعر التقطه من مكان ما:
ولكنني أصطاد رزقي بأرضهم ولا بد للصياد من صحبة الكلب
كان يحضر كل الاحتفالات (الوطنية) التي ما ان ينتهي أحدها حتى يبدأ الآخر, يحشد الناس في ساحة السرايا, هذه الساحة التي ما فتئت تحتضن الاحتفالات التي سميت بالوطنية, منذ احتفالهم يوم استلام حزب البعث مقاليد الحكم في سوريا, ورقصوا حينها على وقع أغنية يقول مطلعها( لف المشمش عالتفاح...دين محمد ولى وراح) الى الوقت الذي ارتفعت فيه أغنية( حللك يا الله حللك..يقعد حافظ بمحللك) مرورا بهتاف ( بدنا نحكي عالمكشوف اخونجي ما بدنا نشوف) الحشود هنا كلها من الطلاب والمعلمين والموظفين, يحاطون بأطواق صلبة من رجال الأمن والمخبرين, يجبرون على سماع خطابات تتكرر في كل المناسبات, ما كانوا يستمعون, ولا يعلمون ما يقوله الخطباء, ليس مطلوب منهم أن يسمعوا أو يعرفوا, كل ما هو مطلوب التصفيق بشدة حين سماعهم اسم حافظ الأسد.
كان المصطفون في الصف الأول يستمعون, وفي الصفوف الأخرى يتحادثون, يتناقشون في كل ما يخطر لهم من الأحاديث, حتى اذا سمعوا التصفيق ينطلق من الصف الأول, انتقلت العدوى إلى أكفهم المتحفزة بفعل الخوف فصفقوا, هذا كل شيء, ما كان عبد القادر يدنو من الصفوف الأولى, بل كان يفضل الوقوف مع بعض أصدقائه على زاوية الرصيف أمام دكان قيس زريق, يشترون بعض البسكويت والعصائر, يتسلون بها, يتفرجون على مجموعات من الشباب والشابات قدموا من قرى الجبل, وقد شبكوا أيديهم بأيدي بعض في رقصة الدبكة, على قرع الطبل والمزمار, في أيدي أفراد من القرباط, لا يغيبون أبدا عن هكذا مناسبات, منسجمين في رقصهم غافلين عن الحفل وما يدور فيه.
كان الاحتفال بانتصارات حرب السادس من تشرين( التحريرية) تبدأ في بداية تشرين, وتستمر بشكل يومي وبكل هذه الحشود حتى السادس عشر من تشرين الثاني إذ يحين موعد الاحتفال بالحركة ( التصحيحية المجيدة) فتبدأ من جديد, والويل كل الويل, للمواطن الذي يحتاج مراجعة إحدى الدوائر في تلك الأيام, لن يجد دائرة واحدة تستقبله, بل سيجبر على الوقوف مع الجماهير المحتفلة, لأن أعين المخابرات والمخبرين لا تغفل, وأيدي كتاب التقارير لا تفتر, سرعان ما يرفعون تقريريهم إلى فروع الأمن لو انسحب مواطن من الاحتفال, سيطعنون في وطنيته وولائه للوطن, وربما أضافوا أنه يتعامل مع جهة أجنبية لو كان علمانيا, ومع الإخوان المسلمين لو كان متدينا ( العصابة الإرهابية ذيل الرجعية والامبريالية) وفق الشعار الذي فرض على تلاميذ المدارس ترديده في طابور الصباح.
عبد القادر السوسي كان قبل استلامه لإدارة المالية, ينجز ما لديه من عمل, ويقف في نافذة غرفته, في الطابق الثاني من بناء السرايا, النافذة مغطاة بصورة كبيرة جدا لحافظ الأسد, القائد الواحد, حامل كل صفات الكمال على الأرض, فهو المعلم الأول الشرطي الأول والمحامي الأول والعسكري الأول والفلاح الأول والعامل الأول...وكل ما شاء من الأوصاف والمهن والنشاطات, وفوق هذا كان الأب القائد لكل أبناء سوريا, وهذه الأبوة أيضا فرضت على تلاميذ المدارس, يرددونها شعارا ضمن منظمات الطلائع والشبيبة وسواها, هذه الصورة العملاقة المرسومة على القماش, تتدلى من سطح السرايا حتى تكاد تلامس أرض الشارع , مغلقة نوافذ الغرف الواقعة خلفها في الطابقين, مانعة عنها النور والهواء, القماش مؤلف من جزأين, تم وصلهما بخياطة متينة لاستيعاب اللوحة, لكن الموظفين الذين ضاقوا ذرعا بظلام غرفهم, نقضوا تلك الخياطة, وأحدثوا فرجة فيها, باعدوا بين الجزأين ليتاح لهم رؤية الشارع, كان عبد القادر يقف أمام النافذة, يباعد بين قطعتي االقماش, ويقف خلفه زملاؤه, لينظروا جميعا من بين فخذي السيد الرئيس إلى الساحة التي يتوسطها تمثال نصفي لصاحب الصورة, وإلى الجماهير المحتشدة في الاحتفالات, بينما ينظر زملاؤهم في الطابق السفلي إلى المشهد ذاته, من بين فردتي حذاء سيادته, قبلما يأمرهم مديروهم بترك أماكنهم والنزول إلى الساحة.
عبد القادر ينتمي إلى أسرة صغيرة فقيرة, ضعيفة, ويحتل منصبا هاما, لذلك تم اختياره من قبل النظام ليكون الضحية الأولى, عبد القادر المسالم اتخذ الكثير من أفراد الطائفة العلوية أصدقاء له, لم يخترهم, بل اختاروه, كان خجولا لا يرفض صداقة أحد, ولا يرفض الإنصات إلى حديث أحد, مخلصا لعمله ولمزرعته, ترك القرية ولحق بزوجته فسكن معها في مدينة اللاذقية, لذلك اشترى شاحنة صغيرة, من أرخص الأنواع, تعينه في التنقل بين بيته ومزرعته ومقر وظيفته.
في ذلك اليوم الأغبر, السادس من شهر حزيران, ركب سيارته من اللاذقية, سار بها على طريق حلب, ليمر بالمزرعة يتفقدها وينجز بعض الأعمال فيها قبل بدء الدوام في الدوائر الحكومية, لكنه لم يصل المزرعة, قبلها بقليل, على مفرق قرية البهلولية تم قتله داخل سيارته, كان أحد أبناء قريته مارا من ذلك الطريق, لمح السيارة والناس المتجمهرين حولها, رجال شرطة وعسكريين ومدنيين, تقدم مستكشفا , فأذهله ما رأى, عبد القادر يجلس ميتا خلف المقود والدم يملأ قاع السيارة, سرعان ما حضرت سيارة الإسعاف, نقلت الجثمان إلى المستشفى, وبقيت سيارة عبد القادر في مكانها مفتوحة الأبواب.
عاد الرجل إلى القرية, يخبر كل من يراه في طريقه بالخبر, سرى النبأ سريان النار في عشب يابس, واستنفر كل أهل صهيون للخبر, جمعت كل ما في المنطقة من آليات, سيارات, دراجات نارية , جرارات, شاحنات, استقبل جثمانه كما لم يستقبل جثمان من قبل, طافت جنازته بذلك الموكب المهيب كل شوارع الحفة وكل قراها, والجميع يهتف بإسقاط النظام, حضر الجنازة كل رجال الشرطة, والمخابرات, كانوا صامتين يراقبون, أمام القبر ألقيت الكثير من الخطب الحماسية, قيل فيها الكثير من التحدي, ثم دفنت الجثة, وحضر وزير الداخلية ليهدئ من روع الناس, وليعدهم بالاقتصاص من الجاني كائنا من كان, حماس الشباب لم يطفئه وعد الوزير, بل أقاموا مهرجانا خطابيا فوق القبر, تحدث فيه مطولا خليل درويش, وآخرون من رجال القرية الشجعان, كما تحدث صلاح البيطار مطولا, وقال في ختام خطابه: لم يبق أما شرفائنا سوى طريق واحد لاستعادة كرامتنا, وهو الثورة, واستكمل المشهد بمظاهرات عمت بلدة الحفة وقراها, لم تنطفئ لها جذوة, حتى كانت الهجرة.
وصلت أم حليمة, تحمل بيدها صرة كبيرة, وبيدها الأخرى رضيعها, أعطت الرضيع لحليمة وفرشت ملاءة على ارض صندوق الشاحنة, أضجعت عليها صغيرها ثم تسلقت بصعوبة الباب الحديدي المرتفع, لتجلس مع أشيائها وولديها في الزاوية, كان الرجال المسلحون يملؤون الساحة, يتغلغلون بين الزحام, يساعدون بصمت هذا و ذاك وتلك, وصلت عائلات عديدة إلى الشاحنة, مقاسمة حليمة وأمها تلك المساحة الضيقة.
- أمي أنا خائفة
- مم تخافين يا صغيرتي؟
- من هذه البنادق, هل سيطلقون النار علينا فنموت كما مات ابن عمي غزوان وصديقه عبد العظيم؟
- هؤلاء أهلنا يا حليمة, هذا هو الجيش الحر, ألم تسمعي في التلفاز الحشود المتظاهرة وهي تهتف (يا جيش الحر..الله يحميك)؟
هزت الصغيرة رأسها موافقة وقامت من مجلسها, تسلقت سور الشاحنة الحديدي, رفعت قبضتها في الهواء وهتفت بأعلى صوتها: (يا جيش الحر, الله يحميك ) , انطفأ الخوف من صدور الأطفال كما ينطفئ برد الشتاء, وأزهر الفرح, كانوا يتخيلون أنهم ذاهبون في رحلة كرحلات المدارس, ردد كل الأطفال هتاف حليمة, رافعين قبضاتهم الغضة في الهواء, ابتسم لهم الرجال المسلحون وحيوهم برفع بنادقهم, وانقلب المشهد إلى احتفالية مهيبة, أحيتها حناجر الأطفال.
تحركت الشاحنة الأولى بما تحمل من العائلات, لحقت بها الثانية والثالثة, تجاوزت القافلة الشوارع المضاءة, لتدخل بين البساتين ثم الحراج المظلمة, هنا صرخ صوت أجش بالأطفال أن اصمتوا, كمت الأفواه ولاذ الصغار بأمهاتهم خائفين,سكتت الأغنيات وارتفع صوت الرضع ببكاء يشوبه الرعب, وظلت الشاحنات ترتج بحمولتها عابرة الطرق الترابية لتقطع قرى بيت الشكوحي ونباتة وبلوطة, بهدير غليظ , أسندت حليمة رأسها على كتف أمها لتدخل عالم النوم القلق, بينما انخلعت أم حليمة من واقعها, وجلست ساكنة صامتة, مستسلمة لهدهدات الشاحنة على الطريق الوعر, تحدق في الظلام غارقة في تداعيات أفكارها وخيالاتها.
في أول يوم سمح لها في بالذهاب الى عملها بعد الغارة, استقبلها زميلها غدير, وهو موظف جديد في هذه الدائرة, استقبلها ضاحكا شامتا, سألها بلهجة فظة كريهة, عن حجم خسائر القرية في ذلك الاجتياح, أجبته ببرود: لم نخسر شيئا, كل ما في الأمر بعض قطع الأثاث نهبتها أيدي جماعتكم, هذه الأشياء تشرى بالمال, وكل ما يباع ويشترى رخيص, حتى الانسان الذي يثمن نفسه بالمال : رخيص, تجمدت ضحكته على فمه, لكنه عاد ليسألها: كم قتيل سقط منكم؟ أجابته: نحن نؤمن أن العمر محدود بعدد الأنفاس, هؤلاء الثلاثة انتهت أعمارهم, لكن الله أكرمهم بالشهادة, لم نخسر شيئا, بل ربحنا الوعي.
هذا الموظف المسمى بغدير, حين سمع بالهجوم على مخفر كنسبا فر راكضا الى المرحاض, وما ان يخرج منه حتى يعود اليه من جديد, فلتت منه أعصابه وما عاد لشدة رعبه يتمكن من السيطرة على نفسه, والمسافة الفاصلة بينه وبين موقع الحدث تقارب الثلاثين كيلومترا, بعد جولاته المكوكية الى المرحاض, أفرغ خزانة المصنفات من محتوياتها, واختبأ داخلها مقرفصا لصغر حجمها, محتجبا عن مصدر الخوف.
دائرة عملها عبارة عن غرفة واحدة, تصطف الطاولات فيها صفين يلتقيان بزاوية, لتشكل حاجزا يحول دون وصول المراجعين إلى السجلات, المراجعون يزدحمون قبل الظهر, يريدون إنهاء معاملاتهم والعودة إلى قراهم قبل أن تتوقف سيارات النقل عن جولاتها بين القرى فتنقطع بهم السبل, أو يضطرون للعودة سيرا على الأقدام, بعد انتصاف النهار تخلو الدائرة من المراجعين ويصبح الجو مهيئا لتبادل الأحاديث مع الزملاء وشرب الشاي, زميلتها سناء تنتهز الفرصة لتسرع بالعودة إلى رضيعها, الذي أودعته حضانة الأطفال, ويخلو الجو للأستاذ سليمان رئيس الدائرة مع زواره, ليتحدث معهم بأصوات منخفضة بما شاء من أحاديث السياسة, التي لا يجرؤون على تداولها جهرا.
الأستاذ سليمان وزواره من البعثيين الأوائل, أنصار صلاح جديد, والذي قضى سنوات عمره التي تلت (الحركة التصحيحية ) في سجون الأسد, الأستاذ سليمان لم يدخل المعتقل, بل نفي إلى المحافظات الشرقية, ليمارس عمله الوظيفي بين البدو وأشباه البدو, في أجواء لا تربطها صلة, مع طموحه السياسي وشلة أصدقائه المؤمنين بمثل أفكاره, وقد أعادوه إلى الساحل بعدما بردت كل الحركات المتعلقة بتلك الفترة من السياسة, وبعدما ارتقى خاله في المناصب فصار بإمكانه التأثير في موضوع نقله.
ما كان الأستاذ سليمان وزواره يخشون التحدث على مسمعها, فهي امرأة بسيطة لا شان لها بالسياسة, بل إنها تخشى الخوض في أي موضوع يتعلق بالسياسة, خمسة من أفراد عائلتها اعتقلوا بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين, وهذا وحده سبب كاف لوضعها تحت المراقبة الدقيقة من قبل رجال المخابرات, ومن قبل الأستاذ سليمان وزواره, كانت في البداية تنشغل بأعمالها, أو بمطالعة بعض الكتب والمجلات في أوقات خلو المكتب من المراجعين, تنأى بنفسها عن أحاديثهم خوفا ورعبا, لكنها عافت كل شيء فيما بعد, وراحت تصغي باهتمام...لكل كلمة تقال هنا وزن مختلف, كل جملة تطرح هنا تكشف شيئا من مستور التاريخ القريب, والبعيد, والسحيق أيضا, كان الأستاذ سليمان يستقبل أقاربه العائدين من الاجتماع الشهري لشعبة حزب البعث, يستقبلهم باحتفالية ساخرة, يرفع قبضته المضمومة في الهواء, يهتف مقلدا هتافهم في اجتماعاتهم : يحيا العامل والفلاح...ثم ما يلبث أن يتبع عبارته تلك بعبارة أخرى تتكرر كلما رجعوا من اجتماعهم: لم يأكل أحد من الهواء مثلما فعتلم انتم, والعامل , والفلاح...يضحك الجميع ويتبادلون التحيات والقبلات.
شخص قديم جديد دخل محادثاتهم ومباحثاتهم, رجل ربعة, دائم المرح دائم التبسم, لا يبالي بالصعاب ولا العقبات, يستهين بها كلها, يسخر من مخاوف الخائفين, انه سعيد, رجل من سكان كفرية, القرية العلوية المترعة بالمناهضين لنظام الأسد وحزب البعث, عرفته أم حليمة يوم خروجه من معتقله, بعد غياب دام ما يقارب عقدا ونصف العقد من السنين, دخل السجن شابا يافعا, مع من دخل في بداية الثمانينات, من رابطة العمل الشيوعي والإخوان المسلمين, وخرج رجلا قوي العزيمة صعب المراس, ما فتت سنوات السجن من عضده ولا ألانت عذاباتها عزيمته, بل أعطته المزيد من الصلابة والإصرار, استقبله الأستاذ سليمان منذ أيام, وعلامات الخوف على وجهه يحاول إخفاءها تحت قناع من اللامبالاة, أمسك يد سعيد وسحبه للجلوس على كرسي بجانب مكتبه, سأله بإشارة اليد, ما الذي يحدث؟ إلى أين نمضي؟ ابتسم سعيد بثقة وقال: إنها خطوة جيدة في الطريق الصحيح, ثم عاد فقلص بسمته ليكمل: آمل أننا نخطو باتجاه مجتمع مدني نكون في مواطنين بدل أن نكون رعايا, في الطريق كثير من الأشواك والعقبات, تجعلني أتمنى أن يكون شعبنا متجها إلى المستقبل بعيدا تحكم عقليات الثأر والانتقام وألا يحكمنا أبشع ما في ماضينا وحاضرنا, بل أجمل ما في تطلعاتنا وأحلامنا.
كان ذلك الحديث في نهايات شهر نيسان, المظاهرات تعم أرجاء البلاد منذ أكثر من عام, لم يترك النظام وسيلة لإسكات الجماهير الغاضبة إلا وجربها بلا فائدة, جرت تحركات على مستوى كبار الشخصيات في الدولة , وجرى إيهام الناس بافتعال إصلاحات هنا, أو هناك, مقابلات تلفزيونية حشر إليها الناس بالقوة, ليشهدوا زورا أن الدولة تقدم أفضل الخدمات, وأن من يقومون بالمظاهرات هم شرذمة قليلون, لا يمثلون نسبة من الشعب, وجرت مقابلات مع أشخاص اعترفوا بأنهم جماعات إرهابية, يتقاضون نقودا أجر المظاهرات التي يشاركون فيها....محاولات إعلامية غبية وكذب مكشوف صار مادة للتندر بين أفراد الشعب, واحتل رجال الدين مساحات واسعة من الساحة الإعلامية, يصولون فيها ويجولون, ينثرون الفتاوى يمينا وشمالا بالسهولة ذاتها, التي ينثرون فيها حبوب القمح للدجاج.....
قال سعيد في تعليق على الشيخ الذي جاء ليترشح في انتخابات مجلس الشعب, متى سيتم فصل الدين عن السياسة؟ متى سيكف رجال هذه الأسرة عن توارث المشيخة حتى حولوها إلى مزرعة للاستثمار؟ يتصرفون برقاب الناس كأنهم آخذين وكالة عن الرب, أما آن لهم أن يفهموا أن الشعب بات يرفض جنة يدفع ثمنها مقدما لهؤلاء المشايخ؟ كان سليمان يشير اليه بيديه كلتاهما أن اصمت..لا تفضحنا...
كانت تنصت لحديثهما ذاهلة, هذا الرجل يتحدث بعقلانية ووطنية, ليت الجميع يسمع لقوله ويمتثل له, أهلها مهددون, قريتها مهددة, الطائفية أطلت برأسها البغيض من جحر التاريخ, لتعلن على لسان مندوب أمن الدولة, في الاجتماع الموسع الذي أقيم في الحفة للبحث في طريقة مجدية, تقمع بها المظاهرات, ويعاد الشعب إلى ربقة الخنوع والمذلة من جديد, أعلن مندوب أمن الدولة ما سبق إعلانه منذ قرابة تسعين عاما, ( أقامة الدولة العلوية في الساحل) قال في ذلك الاجتماع: اسمعوا أيها الناس وافهموا, مشروع تقسيم سوريا جاهز منذ مدة طويلة, إقامة دولتنا العلوية أمر لا بد منه, من أراد العيش في دولتنا سيعيش (بالصرماية) كما تريد له الأكثرية أن يعيش, لن نسمح لصوت الأذان أن يرتفع في بلادنا, لن نسمح لامرأة محجبة بالتواجد في شوارعنا, من أعجبه هذا الكلام فليبق, وعليه الالتزام بكل قوانين دولتنا, ومن اعترض فليجد له وطنا آخر , خارج هذه المنطقة, منطقتنا.
ما أبعد البون بين كلام سعيد وكلام مندوب أمن الدولة, أيهما أقرب للواقع؟ أيهما أقدر على إنزال فكرته لتصير واقعا على الأرض, كثيرة هي الحروب بين الطوائف, والتي عرفتها هذه المنطقة على امتداد التاريخ الذي تذكره الجدة حليمة, والذي سمعت حكاياته من أبيها وجدها, وفي كل مرة تضع الحرب أوزارها, ويعود الجميع ليعيشوا حياة جيران لا يستغني بعضهم عن بعض, يبيعون ويشترون, يتبادلون الأحاديث والنوادر, يعبرون قرى بعضهم البعض في تلك الجغرافيا المعقدة الوعرة, ينسون ثأرهم لسنوات طويلة, حتى تمتد يد من الخارج, تحرك الجمر الراكد تحت الرماد, تشعل الحرائق وتريق الدماء, ترى أين مكان هذه المرحلة على الخط البياني لأحداث التاريخ؟؟
سعيد يقول: أعتقد أن الحراك والصراع الجاريين في الساحل السوري سيفرزان في سياق المحاولة لبناء دولة المواطنة والقانون, سيفرزان بعض الجيوب الطائفية الغبية, وسيفرز صراعا قد يتخذ شكلا عنفيا بشعا, لكني آمل أن يكون ذلك على نطاق ضيق ومحدود, يترك محدثه ويلتفت إليها ليسألها.... أنت تعايشين الوضع أكثر مني ... ما رأيك يا جارة قريتي؟
دفعة واحدة يضعها سعيد في موقع المسؤولية, مسؤولية التحدث باسم طائفتها, ارتبكت, ارتجفت, ولم تجب, هل تعتبر هذه الرحلة, من الجنكيل إلى جبل الأكراد إحدى مفرزات الجيوب الطائفية التي أشار اليها الأستاذ سعيد؟؟ مر في خيالها طيف عهد ابن اسحق, ذلك المجنون, حين مد رأسه من فرجة الباب وهتف بأعلى صوته: الله أكبر, ضحك سعيد وامتعض الأستاذ سليمان....بينما أكمل عهد طريقه ليدخل كل المكاتب ويهتف فيها كما هتف( الله أكبر) مثيرا بذلك موجات عالية من القهقهات تتناثر من الأبواب والنوافذ وتنتشر بالعدوى بين الموظفين من أهل السنة, توازيها موجات متساوية من الرعب عند العلويين.
- سننزل هنا
أعلنها احد الرجال بعدما توقفت الشاحنات في ساحة مظلمة, بصعوبة فتحت حليمة عينيها الناعستين, فركتهما بظاهر كفيها, حاولت استكشاف المكان ثم عادت فأغمضت, واستسلمت للنوم من جديد, اصطفت الشاحنات,و نزلت أم حمزة في ساحة دورين مع عشرات الأسر, حمل أحد الرجال الطفلة حليمة, أضجعها على الرصيف مسندا رأسها إلى حقيبتها, ريثما يتم البحث عن بيوت خالية من سكانها, يؤوون فيها هذه العائلات النازحة.
كانت أم حليمة تجلس في صندوق الشاحنة, مستسلمة لأرجحتها, تحدق في الظلام, غافلة عما حولها, تحاول مزج كلام هذا مع ذاك فيتعذر الامتزاج, كالزيت والماء, توقفت السيارة, وتسارعت الدراجات النارية لتحيط بها, انتبهت ام حليمة فوجدت رفيقاتها في الرحلة يتسابقن للنزول وقد هدهن التعب والقلق, تباطأت, رحمة بابنتها النائمة, ورضيعها الذي كف عن بكائه منذ لحظات ولاذ بصدرها خائفا, جمعت حوائجها ودفعتها باتجاه الشاب المنتظر على الأرض والمنشغل بمساعدة العائلات على الوصول لمأمن.
أشرق الفجر بنوره الكئيب, من خلف سلسلة الجبال وقامات الدلب, كشف عن عدد هائل من الصرر والحقائب والأطفال النائمين على التراب, تبعته الشمس, متمهلة قادمة بأشعتها الباهتة , تمشي على ذات المسار, تصارع الخجل والغضب والرأفة, نشرت أشعتها الذهبية على هامات الأشجار, ثم مالت من خلف الجبل, لتترك الأطفال النازحين ينعمون بنوم هادئ في ظلال الأشجار التي سلمت من حريق الأمس, ظلت حليمة مستغرقة في النوم, تنتقل من حضن إلى حضن, حتى استقرت على حصير في منزل هجره سكانه, نازحين إلى بيوت أقارب لهم في مدينة اللاذقية, وجثت أمها إلى جانبها تحاول إسكات رضيعها حمزة, بلا جدوى, الطفل يصرخ باكيا يهده الجوع والبرد, في هذا الصباح الجبلي وقد ابتلت ملابسه خلال الرحلة الطويلة و الانتظار المقيت, وأمه حائرة قد اسقط في يدها, تفتش حقائبها وصررها مرات ومرات, فتجدها خالية من أية علبة حليب, ربما نسيت علب الحليب في البيت أو السيارة, ربما نسيتها في ساحة القرية او اختلطت مع حقائب أخرى لنازحين آخرين..
قامت فيحاء, وهي امرأة شابة من قرية شيرقاق, جاءت بأسرتها نازحة مع النازحين, لتقاسم أم حمزة مسكنها وزادها, مع ثلاث أسر أخرى, وها هي ذي ترافقها في مرحلة تالية من النزوح, وتنزل معها في هذا البيت الذي لا يعرفون شيئا عن أهله, قامت فيحاء تفتش في أرجاء المنزل الصغير, تتفقد ما خزن أصحابه قبل نزوحهم من المؤن وما تركوا من الثياب, وعادت بعد قليل تحمل فرحا في جنبيها, وعلبة حليب بين يديها.
- خذي يا ام حمزة, اطعمي ابنك وبدلي ملابسه
أخذت أم حمزة تلك العطايا برضا, ما عاد هنالك فرق بين بيت وبيت, صارت البلدة كلها بيتا واحدا, وصار السكان كلهم أسرة واحدة, أقارب وأهل بيت, تذكرت حكاية سمعتها من أبيها مرارا, حين دخل أحد البيوت في قرية من قرى الجبل, قدم له الطعام في طبق نحاسي كبير, كتلك التي تستخدم في الولائم, منقوش عليه زخارف بديعة وآيات قرآنية, عاف الطعام وراح يتأمل الزخارف, قل له صاحب البيت ضاحكا: لا تستغرب يا حج أحمد, هذا الطبق ورثته عن جدي, وهو غنيمة حرب غنمها أيام الغزو على صهيون, ولن تجد في كل بيوت صهيون إناء ورثه حفيد عن جده, صهيون مخلوقة للغزو والنهب, ما تزال تغزى وتنهب بيوتها مرة تلو مرة, وما توقف نهبها, ألم تنهب أغنى بيوتها أثناء جولات المخابرات التفتيشية في الثمانينات؟؟
- أمي أين بيتنا؟
- هذا هو بيتنا الجديد, تكلمي بهدوء يا حليمة, لئلا توقظي أخاك
- هل ستسكن وداد ونور معنا؟
- نعم يا حبيبتي, ردت فيحاء, أما كنا نسكن معكم في بيت عائشة بقرية الجنكيل؟
- لا أريد هذا البيت, ولا أريد بيت عائشة في الجنكيل, أريد العودة لبيتنا في اللاذقية, أريد ثيابي وألعابي
لم تجد البنية ردا من المرأتين فخرجت من بينهما تستكشف الدار الجديدة, لحقت بها فيحاء تاركة ابنتيها مستغرقتين في نوم ثقيل, بعد ليلة طويلة من التعب والإرهاق, رأت حليمة في باحة الدار كرة كبيرة, ركلتها بقدمها وركضت خلفها خطوات ثم توقفت, راحت تبحث عن شيء ما لا يعيه فكرها المشتت, شاهدت قطة تختبئ بين أعشاب الحديقة, تقدمت منها بحذر فهربت القطة, تسلقت جدار السور الخشن, ثم نزلت في جانبه الآخر على الدرب, تلفتت حولها في المكان الغريب, ثم جلست على أولى درجات السلم الحجري وانخرطت في بكاء مرير.
- ما الذي يبكيك يا حبيبتي؟ دنت منها فيحاء واحتضنتها بين ذراعيها وراحت تمسد شعرها
- لا أعرف...أريد بيتنا
- ستعودين يا حبيبتي, سنعود كلنا إلى بيوتنا, انظري إلى هذا الحبل الطويل هنا, هل أصنع لك أرجوحة؟
- لا أريد أرجوحة, أريد العودة إلى بيتنا
- وأمك هل تتركينها هنا؟ هل تعرفين طريق البيت وحدك؟
- لا
- انتظري إذا, حين يعود أبوك, ويعود زوجي والد نور وإسلام, سنرجع كلنا إلى بيوتنا, تعالي ساعديني في عمل الأرجوحة
- ما اسم هذا المكان يا خالة؟
- دورين, نحن في قرية اسمها دورين
دورين ما تزال قرية صغيرة فقيرة كما وصفتها الجدة أم علي حلوم, تتجمع بيوتها في بطن الوادي, وزاد عليها شيئ جديد, اجتاحت الحضارة سفوحها بأبنية حديثة, تناثرت على مدرجاتها الفوضوية, بيوت أعدت من أجل الاصطياف, ذات طابق واجد مسورة بأسوار منخفضة, تزيدها جمالا وتسمح بامتداد البصر بين الجبال والغابات المحيطة لتزيد في متعة المصطافين, تركت حليمة الخالة فيحاء تعالج الحبل وترمي به مرة إثر مرة فوق عتبة الباب العالية, حتى ثبتته وعقدته, وجلبت بساطا صغيرا من البيت, ثبتته على الحبل صانعة أرجوحة قوية متينة, حملت حليمة بين ذراعيها, أجلستها في الارجوحة وراحت تدفع بها للأمام مرات ومرات.
- أين هي ساحة دورين حيث دارت الحرب بين المهاجرين وجيش علي بدور؟
- تعالي نغني يا حبيبتي, ردت فيحاء متجاهلة السؤال, هيا
قال الصرصور للنملة
طعميني اربع حبات
بشكر فضلك للممات
قالت له روح يا كسلان
انا ما بحب الكسلان
- هل تحفظين أغنيات الجدة أم علي يا خالة؟؟ قاطعتها حليمة فشعرت بالخيبة أمام هذه الطفلة المختلفة, لكنها رفضت الاعتراف بالفشل, تجاهلت السؤال وتحولت إلى اتجاه آخر.
- سنغني أغنيات العيد...هيا ساعديني
عمي حج أحمد...يو يا
عطيني حصانك..يويا
لشد واركب...يويا
الحق اسكندر....يويا
اسكندر ما مات...يو يا
خلّف بنات....يويا
كانت الصغيرة تنصت لكلام الأغنية ولا ترد, بل تلتهم الكلمات والمعاني التهاما...
- من هو اسكندر يا خالة؟ أهو ابراهيم هنانو؟
- ما رأيك أنت؟
- جدتي كانت تغني لي: طيارة طارت بالليل, فيها عسكر فيها خيل , فيها ابراهيم هنانو, راكب على ظهر حصانو, وحاطط بنتو قدامو.....ابراهيم هنانو ما كان لديه أولا صبيان, وكذلك اسكندر
- ربما يكون هو
- أين ابراهيم هنانو الآن؟ أهو مع الجيش الحر في الجبل؟ جدتي حكت لي بأنه رجل قوي حارب الفرنسيين, أين هم الفرنسيون الذين يحاربهم أبي مع الجيش الحر يا خالة؟
فيحاء امرأة عادية, مثل العشرات غيرها, من بنات قريتها, كانت شابة جميلة, غرها جمالها فعافت الدرس والمدرسة, وراحت تستعرض مفاتنها في مجالس النساء الكبيرات, تسارع الخطاب إلى بيت أبيها, وسرعان ما تزوجت وأنجبت, وانشغلت بأمور البيت وتربية الصغار, ما نالت علما في المدارس ولا استمعت لحديث الجدات كي تكسب خبرتهن في الحياة, أو لتعلم عن تاريخ بلادها شيئا, اكتفت بمرآتها, ومناوشات البنات حول البئر وفي دروب القرية, كانت أسئلة الطفلة تسقط تباعا على ذاكرتها الخاوية كرجم الحجارة, تسوطها بسياط الأسف والندم, تجعلها تعترف بجهلها أمام طفلة في عمر بناتها, وجدت علومها القاصرة تقف عاجزة أمام حيرة هذه الطفلة, لا تعرف بم تجيبها ولا تعرف كيف تتخلص من إلحاح أسئلتها, اعتذرت منها بوجوب ذهابها إلى المطبخ لتحضر الإفطار قبل استيقاظ ابنتيها, وانصرفت تقارع خزيها.
لم تسأل فيحاء, ولا سألت أمها, عن عمر البيطار ورجال الصهاونة كيف قاتلوا الأعداء في هذه البقعة من الأرض, ولا عن عدد القتلى منهم ومن أعدائهم, لم تسرد لها أسماء عز الدين القسام, الذي جاء من جبلة إلى الجنكيل خطب في مساجدها وحمس الناس على الجهاد ضد الفرنسيين, وانتقل الى شيرقاق ليعمل جنبا الى جنب مع عمر البيطار, ومصطفى درويش وزاكي البيطار ومحمد عبدو ديب, لم تحدثها كيف نهبت وأحرقت بيوت صهيون, وهجر أهلها كما هجروا الآن, ثلاث مرات متتاليات خلال قرن واحد, فيحاء لا تعرف شيئا من هذا, أنى لها بالمعرفة وقد نأت بنفسها عن علوم المدارس وعلوم المجالس؟ واكتفت من الحياة باستعراضات الأنثى الجميلة؟
تركت الصغيرة الأرجوحة وركضت الى أمها مستفسرة: أمي , أهنا قال الزعيم الفرنسي لعلي بدور , حين كان خائفا من جدي عزيز ورفاقه: لو أن لدي مئة من رجال الصهاونة لاستطعت بهم احتلال العالم؟ أين هم رجال الصهاونة؟ أجابتها الأم بهدوء: الصهاونة هم نحن يا ابنتي, منطقتنا كانت تسمى صهيون منذ مئات السنين, ورد ذكرها وذكر القرى المحيطة بها في حكايات أبي زيد الهلالي, ألم تحك لك جدتك حكاية الهلاليين وتغريبتهم حتى وصلوا تونس وبلاد المغارب؟
عادت حليمة الى باحة الدار تواصل اللعب والاستكشاف, بينما أرضعت أم حليمة صغيرها وبدلت ملابسه فاستسلم للنوم, واستسلمت هي لتداعيات أفكارها, كلام الأستاذ سعيد بعدما كان يجري همسا بينه وبين الأستاذ سليمان, تجاوز مكانه وصار يخصها هي, صار سعيد يوجه كلامه كله لها, وصار الأستاذ سليمان مجرد مستمع لحديثهما, سعيد يحاورها باعتبارها ممثلا عن قريتها, وهي, كانت تنصت لحديثه العقلاني وتتساءل: أهو رأيه وحده؟ أم أنه يمثل مجموعة تقف خلفه؟ هل يستطيع التأثير على مواقفهم؟ أم أن صوته صرخة في واد لا يرد الصدى؟؟
قال لها في بداية الثورة: عناصر الأمن هم الأكثر رعبا على ما أعتقد, وهم أكثر البشر براعة في نشر مختلف أنواع الإشاعات, التي تريد النيل من الحراك الثوري, وقد نشروا منذ بداية الثورة ثلاثة أشباح: الأول ممثل بسيارات من الطائفة الفلانية تحمل شعارات تهاجم وتتحدى الطائفة العلانية, فيما يعني حربا طائفية, والثاني: التقسيم وإقامة الدويلة الطائفية, والثالث: التدخل الأجنبي, وهذا سيكون احتلالا غاشما, وهذا الكلام ينطبق أكثر على منطقة الساحل, أو تدمير سوريا بالقصف , بحيث تتعطل( ممانعتها) هم يتاجرون بكل شيء وبأي شيء من أجل تبرير الاعتقال والقتل, لو زرت دمشق لرأيت باصات الشبيحة, وجدران حارات التشبيح, وقد كتبت عليها عبارات: الأسد أو نحرق البلد, سألته وماذا بعد؟ كيف ستنتهي هذه الثورة؟ هل يقتلون كل الشعب؟ أجابها بأن الثورة ستنتهي كما يعتقد بانتصار الشعب, لكنه لا يرى أن الأمر سيكون سهلا, سيدفع السوريون الكثير من الدماء, وقال بأنه سمع في المسيرات المؤيدة للحكومة, هتافات بذيئة, يشتمون بها الحرية, ويمجدون حذاء الأسد, تصوري, في دول العالم يضحون من أجل تغيير حكومة, وهم هنا, يحرقون شعبا كاملا للاحتفاظ برئيسهم, لافتات وهتافات, كلها شبيه للأبد لأجل عيونك يا أسد, كما أبلغها أن الضريبة لن تكون سهلة, وأن العسكرة المبكرة للثورة, وبعض أخطاء الثورة, ستزيد في حجم ضريبة الدم, ولكن في المحصلة, هذا مسار لا بد منه, لانجاز ما يعتبره ثورة سياسية توصل إلى دولة المواطنة والقانون.
كلام الأستاذ سعيد, منذ أن توجه بحديثه إليها مكرسا إياها نائبا عن أهل قريتها, أصبح هاجسا يشغل تفكيرها, فتدرس على ضوئه ما كان وما هو واقع, آثار سنوات السجن التي تزيد عن العقد بسنوات ثلاث, ما تزال عالقة بكل جملة يقولها, تبادلت معه أرقام الهاتف وعناوين البريد الالكتروني, وصار الحديث معه وجبة يومية لا تستغني عنها في هذا الزمن العسير, وخاصة بعد اجتياح قريتها من قبل العساكر والمدرعات.
كتب لها في العاشر من أيار يحدثها عن الوضع في حي الميدان الدمشقي, حيث فرغت الشوارع من المارة, وصارت طقطقة حذاء في أول الشارع تثير التوتر والخوف, الكل ساكت مترقب, والجو يوحي بأيام عسيرة قادمة, سألته : هل تتحدث عن الميدان؟ أم عن الحفة؟ اعتذر بأنه لم يشاهد نشرة الأخبار لهذا اليوم, ولا يعلم ما في الحفة, أجابته بأن هكذا أخبار لا تذاع عبر وسائل الإعلام, بل ترى بالعين المجردة, حيث اصطفت ناقلات الجنود في الشوارع وحول مبنى الحكومة, وتوزع العساكر في الشوارع, بكامل لباسهم وسلاحهم الميداني,يطلقون العبارات الطائفية بشكل استفزازي, كأنهم قادمون لاصلاح التاريخ, يبدون استعدادا لمعركة ربما نهلك فيها مجانا بلا ثمن.
حاول الرجل التخفيف من توترها, حاول طمأنتها, لكنه لا يملك من الأمر شيئا, قال بأنه لا يظن أن يحل المذهب, كائنا ما كان ذلك المذهب, محل الوطن, ولن تولد هذه الحركات الاستفزازية من قبل السلطة الا المزيد من العنف, أرجو الله ألا تقع أية معركة, لأن هذه الجرعات من العنف لن تثني عنق الثورة, وستزيد من التطرف الديني من جهة ثانية, وقال لها : لن نصلح التاريخ, دعوا الأموات في قبورهم وتعالوا لنعيش معا عصرنا تحت سقف هذا الوطن, لسنا بحاجة لإصلاح التاريخ, نحتاج إصلاح أنفسنا, نحن لم ندخل عصر العقل بعد.
************
تركت فيحاء الطفلة في أرجوحتها, تتهادى بين الظل والشمس,وحيدة حزينة تائهة, ودخلت المطبخ, لتهرب من حقيقة جهلها, المطبخ مكان تألفه وتتقن العمل فيه, فجأة هدرت طائرة مروحية في الفضاء, وعلا أزيز رشاشها, عادت فيحاء إلى الأرجوحة راكضة, حملت حليمة بين ذراعيها وجرت مسرعة تحتمي بسقف الشرفة
- لمن هذه الطائرة يا خالة؟ ولماذا تطلق النار على القرية؟
- لا أعرف...كفي عن الأسئلة, ألا تعرفين الصمت؟هيا ادخلي إلى البيت قبل أن تقتلك رصاصة طائشة
- وهل يقتلون الأطفال؟
- قلت لك اصمتي
صرخت في وجهها تداري عجزها عن الاجابة, فانخرطت البنية مرة أخرى في بكاء مر, جاءت أمها, ضمتها إلى صدرها بحنان وراحت تمسح شعرها مهدئة من روعها.
- لا تخافي يا حبيبتي, ليس هناك ما يخيف
- لست خائفة, الخالة فيحاء تكرهني, أريد العودة إلى بيتنا, هذا ليس بيتنا
- بل هو بيتنا يا صغيرتي
- لا تكذبوا علي, هذا ليس بيتنا, نحن الآن في قرية دورين, الجدة أم علي أخبرتني أنهم تنقلوا في رحلة المهاجرة من بيت إلى بيت, كلها بيوت غريبة, لم يمكثوا في بيت واحد, أريد بيتنا
- لا يا ابنتي, تلك حكايات, من المعيب أن تقولي لأمك أنتم تكذبون
- لا...ليست حكايات, جدتي حلوم لا تكذب, عاشت رحلة المهاجرة وكان عمرها ثمان سنوات, مثلي الآن, هل نحن في رحلة المهاجرة؟
خمس سنوات من طفولة الجدة أم علي حلوم أمضتها متنقلة مع أسرتها وأهل قريتها من قرية إلى قرية, ينتظرون بصبر قدوم أحد المقاتلين من الأقارب, ليتفقد أحوالهم ويمدهم بالزاد, وليحدثهم عن تفاصيل معارك خاضوها, عن غنائم غنموها وعن خسائر لا يمكن تعويضها, عن أرواح زهقت ودماء سفحت, ويأتونهم بالتين المجفف والتمر, وربما الحلاوة, هدايا تفرح الأطفال وتجعل لعودة أحد من الرجال وقع العيد على النفوس.
الطائرات تحوم في سماء القرية, تدور في الفضاء كذبابات ضجرة في حر الظهيرة, تفرقع برشاشاتها وترمي صواريخها فيرتج الجبل وتتجاوب الوديان الصدى, استيقظت ابنتا فيحاء فزعتين باكيتين, شاهدتا الدموع في عيني أمهما فالتصقتا بها تنشدان الأمان, وبقيت وجبة الفطور التي جهزتها فيحاء في مكانها لم تلمسها يد, وصحا حمزة, أخو حليمة, والذي سمي باسم أول الشهداء من الأطفال في تلك الثورة, استفاق باكيا غاضبا, راحت أمه تهدهده بين ذراعيها, فينظر إلى وجهها الغارق في الرعب فيزيد من حدة بكائه ولا يهدأ.
تنبهت أم حمزة, فالتفتت إلى البنات: ما الذي يبكيكن يا بنات؟ ليس هنالك ما يخيف, أنا جائعة أريد أن آكل, هيا إلى الطعام, هذا الرصاص مثل المطر, يبلل ثياب من يمشي تحته, نحن هنا تحت هذا السقف, لن يصيبنا الرصاص ولا المطر, إلا إذا وقفنا في الشارع, سنأكل, وسنضحك من الطائرة الغبية, ومن الأغبياء الذين يرسلونها, هيا يا حليمة, أعيدي علي ما تحفظين من أغنيات عن الجيش الحر.
- لا أريد الغناء, أنا خائفة من هذه الأصوات
- لا تخافي يا حبيبتي, ألا ترين الجيش الحر حولنا يحمينا ويحرسنا؟ وهم.....
انفجرت قذيفة في باحة الدار, أتت على جزء من جدار السور, صمتت أم حليمة كاتمة في صدرها صرخة رعب, وضمت ولديها إلى صدرها, نظرت إلى السماء خاشعة متضرعة, بينما أطلقت فيحاء وابنتاها صراخا مذعورا ولذن بأم حليمة خائفات.
مرت لحظات صمت, كان الرعب سيد الموقف, يبسط جناحيه على المكان, والعيون تدور في محاجرها, مطلقة آلاف الأسئلة, بينما تيبست الألسن في الأفواه, محمية بأقفال الشفاه, عاجزة عن نطق كلمة واحدة, ابتعدت الطائرة وسكت هديرها, مرة أخرى دنت أم حليمة من المائدة, مشجعة البنات على تناول الطعام, بحثت في ذاكرتها عن أغنية تتناول الطائرة بالسخرية, عن طرفة, حكاية, لكنها عجزت, صرت قطعة جبن بلقمة خبز, ناولتها لفيحاء غامزة, أن كلي ليأكل الصغار, تناولت فيحاء اللقمة والرعب يرجف يديها, ثم ناولت لقمة للبنت الكبرى
- لتأكل كل واحدة منكن بيدها, لو بقيت أطعمكن بيدي هكذا سينفد الزاد قبل أن آكل حصتي, هيا..أسمعنني بسم الله.
- نسيت إحضار الماء للشرب – قالت فيحاء – سأذهب لاحضاره
دخلت فيحاء المطبخ, ومنه خرجت خلسة لترى آثار القذيفة, وجدت رجالا ونساء متجمهرين, يستكشفون مثلها, بصمت, انضمت اليهم ونسيت ماء الشرب كما نسيت الفطور, ذهلت عن نفسها وبناتها, راحت تجول بعينيها بين الحضور, باحثة عن زوجها أو أحد إخوتها, ساورتها الظنون , هل أصيبوا؟ كلهم؟
- يا أم أحمد هل أصيب أحد في هذه الغارة؟
- تهدمت بعض الجدران والبيوت, لكن الرجال بخير, الحمد لله
تذكرت أم حليمة أشياء كانت قد نسيتها في حقيبة يدها منذ مدة طويلة, كرة من خيوط الصوف وسنارة, أخرجتها ونادت البنات, تعالي يا حليمة, تعالي يا اسلام, تعالي يا نور, سأعلمكن نسج الصوف بالسنارة, ظلت البنات واجمات يلجمهن الخوف, أكملت: غدا تكبرن وتصرن عرائس, سيقول خطابكن بأن أمهاتكن فاشلات, لم يعلمكن شيئا مفيدا, ألا تريدين أن تصيري عروسا يا اسلام؟ أنت الأكبر هنا, سيكون عرسك هو الأول, سوف تنسج كل منكن جهازها بيدها, ليفرح بها العريس, هيا...
دنت الصغيرات منها, وقد أورقت على وجوههن بسمة صغيرة, راحت كل واحدة منهن تتخيل نفسها عروسا في الزفة, والنساء تزغرد من حولها.
- البداية هكذا, تمسكين السنارة بيدك اليمنى, وتلفين الخيط على سبابتك اليسرى, ولفة أخرى على الخنصر, ليسهل انسياب الخيط, في البداية تصنعين سلسلة..ثم..
- أمي..وأنا أيضا سأصير عروسا؟
- نعم يا حبيبتي, ستكونين أجمل عروس في الدنيا, قولي إن شاء الله
- يعني انا لن أموت كما ماتت فاطمة أخت أحمد؟
- الشر بعيد عنك يا ابنتي, ستكبرين وتتزوجين وتصبحين جدة مثل جدتك أم علي حلوم, تحدثين حفيداتك عن هذه الرحلة كما حدثتك, قولي رحمة الله عليها
- رحمة الله عليها
انقضى النهار في محاولات مستميتة من أم حليمة, لإشغال البنات بما يذهب عنهن الرعب, ويزرع الأمل في نفوسهن الهلعة, لكن حليمة سرعان ما شعرت بالملل, غادرت المجلس بحجة دخول الحمام, وانسربت من هناك متخفية تقصد الحديقة, وقفت مصعوقة أمام منظر عتبة الدار, وقد هدمت وسقطت معها الأرجوحة, عادت إلى أمها باكية تشكو فجيعتها
- ما حاجتك للأرجوحة يا ابنتي؟
- أريد أن ألعب
- تعالي لتتعلمي نسج الصوف, انظري, لقد صنعت زهرة, أليست جميلة؟
- لا أحب نسج الصوف, أريد أن أرسم
- حسنا, ابحثي في المنزل, لو وجدت أوراقا وأقلاما ارسمي
جلست فيحاء مع ابنتيها تعلمهن نسج الصوف, وعادت أم حليمة لتداعياتها, ولعبارات تبادلتها مع الأستاذ سعيد نقشت في ذاكرتها حفرا على صخر, الرجل مثقف, وقع عليه من الظلم ما وقع على أبناء قريتها, لم يحمه منهم انتماؤه لطائفتهم, فالظلم لا دين له ولا طائفة, في آخر محادثة بينها وبين الأستاذ سعيد أخبرته أن حربا حقيقة تدور الآن في الحفة, السلطة تحارب الشعب بطائراتها ورشاشاتها وكل ما لديها من أنواع الأسلحة,الحفة تقصف من مراصد زرعت في كل القرى العلوية, يا للخزي, يا للعار, لقد أشعلوها طائفية, وسألته بقهر: هل سيتم تحرير الجولان اليوم؟ أم سيصلحون التاريخ؟ هل أعتبرك عدوا؟ لم لا ترفعون صوتكم عاليا بالمعارضة؟ لماذا لا تمسكون بأيديهم وتمنعونهم عن الإجرام, سألها وهو عالم بالإجابة, إذا كنت تقصدين العلويين فأنا لا يشرفني ولا يسيء إلى الانتماء إليهم, هذا شيء خارج عن إرادتنا, نعم أقصد المعارضين العلويين, لماذا يسلمون طائفتهم للإبادة على يد هذه السلطة الغاشمة؟ هم أقلية, والكثرة تغلب الشجاعة, الحرب الطائفية تعني إبادة, ألا تعلمون؟
لم يجبها في ذلك اليوم, ربما انقطعت عنده الكهرباء, أو انقطع النت, وربما احتار في الرد, لكنها وجدت رسالته في اليوم التالي, يجيبها وكأن الحديث لم ينقطع: أعتقد أن السبب هو ما زرعه النظام في قلوبهم من الخوف والرعب, والأوهام, بالإضافة إلى ( الجحشنة) التاريخية التي ارتبطت بمواقفه السياسية, اعتقد ان سوريا بصدد بناء دولة المواطنة والقانون, كم أتمنى أن يفهم المتشددون من أبناء الأقليات أن من سيحميهم هو القانون, وليس النظام الآيل للسقوط, هذا النظام لا يكترث لشيء, حتى لو يفنى كامل الشعب, هو يسعى دائما إلى شرذمتنا, ليجعل كل أربعة أشخاص مجموعة, هذا دأبه منذ استلامه السلطة, تاريخه يؤكد ذلك, ونحن نسعى بكل إمكانياتنا, لفعل ما يرضي ضمائرنا وإنسانيتنا, ومحبة بأهلنا وأرضنا وبلادنا, المهم...أرجو أن تنجلي هذه الهجمة على الحفة بأقل مقدار من الخسائر, من أين يأتي الأستاذ سعيد بكل هذا الكلام؟؟
فصل جديد
- اركضي يا حليمة, بسرعة, أسرعي أكثر يا ابنتي الطابور سبقنا وصرنا في نهايته, لو تأخرنا عنهم لضاع منا الدرب, وربما صادفتنا وحوش الغابة فمزقت أجسادنا, أسرعي يا ابنتي أرجوك
تحاول الصغيرة الركض فتخذلها ساقاها المنهكتان, تجثو على التراب باكية, أما آن لحكاية الجدة أم علي أن تنتهي؟ تتلفت للخلف, الظلام يلف كل شيء حولها, ويوقف حدود بصرها عند ذيل ثوب أمها, تسأل نفسها ان كانت نائمة؟ تصيخ السمع في محاولة لالتقاط جلبة تأتي من الغرفة المجاورة, حيث يسهر والدها مع رجال من أصدقائه, يلعبون الورق, ويتحدثون بأصوات مرتفعة, في مواضيع لا يدركها وعيها الطفولي, لكنها لا تسمع سوى صوت الريح, يئن بين أشجار الغابة, ويترجع صداه في الوادي كعواء وحش جريح.
- أسرعي يا ابنتي...بعد قليل نصل إلى حيث نرتاح....هيا يا حبيبتي
عند هذا الجزء من الحكاية كان الكرى يتسلل إلى عيني حليمة, ويخطفها إلى حدائقه المبهجة, لكنه يعاند جفنيها في هذا المساء, يسحبها من كابوس إلى آخر, تمد يدها, تهرش ساقيها المزروعتين بالأشواك, لا وقت الآن لانتزاع الأشواك يا حليمة, الموكب سبقنا, لا تتركينا للضياع في هذا الليل البهيم, هيا يا ابنتي.
الجدة التي توحي تجاعيد وجهها بأنها تجاوزت عامها المائة بقليل, تروي حكاية هجرتها من هذه القرية سيرا على الأقدام مع موكب النازحين إلى جبل الزاوية كل يوم, تكررها في كل مجالسها ولاتمل من تكرارها, ولا يمل مستمعوها, صارت الصغيرة تتخيل الدرب الذي مشت عليه الجدة في طفولتها كأنها تراه, بل ترى أثر قدميها الحافيتين على الطين اللزج, في ذلك الشتاء الماطر, وتحس بأنفاسها في الهواء القارس, تتابع بشغف ما ترويه الجدة التي منحتها اسمها, مركزة النظر إلى فمها الأدرد, وشفتيها المزمومتين مثل كيس نقودها المخبأ بين ثنايا ثوبها الداخلي, هذا الفم الخالي من الأسنان يمتعها بطيب الحكايات, وكذلك كيس النقود, يمتعها ببعض القطع الرنانة, تركض بها إلى دكان الحاج بديع, تشتري ما تشتهي من الحلوى والمثلجات, وتعود لتنصت إلى بقية الحكاية, مضيفة طعم هذه الطيبات إلى حديث الجدة, فتكتمل متعتها.
الجدة أم علي حلوم ماتت منذ سنة, اجتمع على جنازتها رجال كثر ونساء, كانت النساء تبكيها بصمت, وكان صوت آلة التسجيل يملأ المكان رهبة وهو يرتل آيات من القرآن الكريم, أخبرت أم حمزة ابنتها أن الأموات يدفنون تحت التراب, وأنهم لا يرجعون إلى أهلهم أبدا, بل يرونهم في الأحلام, وفي الجنة اذا كانت أعمالهم صالحة, لا يكذبون ولا يسرقون, صدقت الصغيرة كلام أمها, ولم تشاهد الجدة أم علي بعد ذلك اليوم أبدا, لكنها بدأت ترتاب في الأمر هذه الليلة, لماذا خرجت الجدة أم علي من تحت ترابها وجاءت لتقص حكايتها بأسلوب مرعب, مانعة النوم عن عينيها؟ لكن ما تشاهده بعينيها ليس حلما في منام, أين هي الجدة أم علي؟ أين حضنها الدافئ وفراشها الناعم النظيف؟
الطريق يمتد نحو الشرق, ثم ينحرف شمالا, ليدخل في الغابة , ويمشي الموكب في درب ضيق وعر شائك, أشجار حراجية تصطف بشكل عشوائي على جانبيه, تمد أغصانها لتصفع بها وجوه العابرين, تتمسك بثيابهم, تمزقها, تغرس أشواكها في جلودهم صارخة: كونوا مثلنا, تشبثوا بأوطانكم, من يغادر موطنه يصيبه اليباس, لكنهم لا يأبهون لتحذيراتها, يسيرون حاملين القليل من الأشياء والكثير من الأمل, أجدادنا قبلنا عبروا هذا الدرب وعادوا أكثر قوة وتلاحما ونضجا, أكثر تشبثا بالوطن وإصرارا على إعادة بنائه.
( بعد اجتياز الغابة وصلنا إلى جبل الأكراد, أول القرى دورين, مكثنا فيها مدة ثم انتقلنا إلى سلمى, كان أخي عزيز ورجاله من الشتا يحرسون الموكب, راكبين خيولهم, حاملين بنادقهم, متمنطقين بصفوف الرصاص, في مشهد يعز النفوس ويرفع الهمم, كان الفلاحون يقفون بدهشة على حدود قراهم, يأتمرون بأمر الملاكين فلا يقتربون من موكبنا) كانت الصغيرة تستحضر كلام الجدة في ذاكرتها, بعد مغادرة الموكب قرية دورين, وتتلفت حولها بحثا عن الخيل والشتا, فتشاهد ظلالا لرجال يحملون البنادق, يسيرون على جانبي الموكب, ومن أمامه وخلفه, لكنها لا ترى بينهم الجد عزيز, بل ترى علي فخر الدين وأبا عبيدة, وأبا مالك وأبا بديع, رجال تعرفهم وآخرين تنكرهم, وترى الدراجات النارية تمشي بسرعة قصوى, تحوم حول الموكب, تحرسه حتى دخل دروبا غير مطروقة في عمق الغابة فتراجعت لاصطحاب مهاجرين آخرين, لم تحدثها الجدة عنها, بل حدثتها عن حمير وبغال تحمل الأمتعة, وعن أبقار وأغنام وماعز, تلحق قطعانها بالموكب, تتلفت البنية حولها مرة تلو مرة فلا تجد لها أثرا في هذا الموكب المتهالك, تشد الأم بيسراها يد ابنتها, منبهة إياها مرارا على ضرورة الإسراع, بينما تسند بيمناها الصبي الصغير على صدرها, وصرة ثياب ضمنتها ما استطاعت حمله في درب هجرتها الطويل, كانت الأم تبكي, عجبا لماذا تبكي كالصغار وهي القوية الكبيرة؟ هل تبكيها حكاية الجدة؟ فلتنصرف إلى أعمالها من كنس وطبخ وغسل, ولتترك الحليمتين, الجدة والحفيدة, لاستكمال بقية الحكاية.
تسرع الطفلة في سيرها لتلحق بأمها, باحثة حولها عما يؤكد لها انها في حلم, وأن حكاية الجدة لا بد أن تنتهي بغفوة لذيذة, تحملها بعدها ذراعا أمها لتنقلها إلى فراشها الدافئ, لكن الدرب وعر وما من شيء تبصره عيناها سوى بعض الأضواء الخافتة, تصدرها ولاعات الغاز, أو شاشات الهواتف المحمولة, في ايدي من سبقوها وسبقوا أمها في موكب النزوح, تكف عن البكاء حين يطلب الكبار من الصغار أن يغنوا أغنيات الثورة, تبدأ الكلمات متلعثمة على شفاه الأطفال المنهكين, يدعمها الشباب المرافقين للموكب فيعلو الصوت, ترفع حليمة صوتها الصافي القوي بالغناء, كل هذه الأغنيات حفظتها من جلوسها المديد أمام التلفاز, ما كان في حكايات الجدة تلفاز ولا ولاعات غاز, الأمر ليس حلما في منام, بل هو حقيقة صارخة واضحة, تستوقف أمها لتسألها: إلى أين نمضي؟ ترد الأم ببكاء مكتوم, يتوقف أحد الشباب, يحمل حليمة على كتفه, ويطلب منها مواصلة الغناء.
ترتاح حليمة على كتف الشاب لحظات, تواصل الغناء ويردد خلفها الأطفال: (سوريا بدها حرية,) يخفت صوت الأطفال بالتدريج, يمنعهم التعب والخوف عن مواصلة الغناء, فيستسلمون للصمت, تبكي حليمة متألمة من صفعات أغصان الأشجار المتتالية على وجهها وصدرها, وتلوب على كتف الشاب تريد العودة إلى أمها, لتسألها أين أبي؟ لم لا يرافقنا؟ ولتسألها أين الجد عزيز ورفاقه الشتا؟ تجيبها الأم بأن أباها في الجبل مع رفاقه المقاتلين, يدافعون عنا وعن قريتنا وبيوتنا, تعود فتسألها: أين الجد عزيز شقيق الجدة أم علي؟ وأين حصانه؟ بل أين الشتا؟ هل جاء علي بدور من جديد؟
حليمة تعرف من جدتها هذه الأسماء, لكنها لا تعرف أن علي بدور كان زعيم الجبل في ذلك الحين, وأنه أبرم اتفاقا مع الصهاونة لحرب الفرنسيين, ثم ملأ الفرنسيون صدره بالأحلام المستحيلة, ونبشوا ما تراكم من أحقاد طائفية قديمة, فنكص على عقبيه, واصطف مع الفرنسيين يحارب الصهاونة, يحاصرهم , يمنع عنهم الزاد, ويغير على قراهم بجنوده وجنود الفرنسيين, فينهب ويقتل ويحرق.
*** **** *****
اختلطت الأمور في ذهن الطفلة المرافقة دائما لجدتها...هي ليست جدتها بل جدة أبيها, تمكث معها في بيتها أثناء غياب أمها في عملها الوظيفي ضمن سرايا الحكومة, تنصت لحكاياتها وتحفظ أغنياتها, الحكاية هذا المساء تشبه حكايات الجدة, حرب قائمة تأكل كل ما في طريقها, وشعب يطالب بإنسانيته, انتفض بعد عقود من الذل والهوان, فوقفت في وجهه قوة , تهدم كل شيء, في سبيل استعباد البلاد والعباد.
- أمي ما عدت قادرة على حمل الحقيبة على ظهري
- امسكيها بيدك
سارت البنية بضع خطوات تجر الحقيبة على الدرب الترابي ذي الحجارة الناتئة, فلا تكاد الحقيبة تتزحزح من مكانها قيد أنملة
- أمي...الحقيبة لا تريد السير معي
- اتركيها واتبعيني
- وثيابنا؟
- دعيها والحقي بي
عشرات الحقائب والأكياس الصغيرة والكبيرة, وصرر الثياب , تركت على جانبي ذلك الدرب بعدما عجز أصحابها عن حملها بقية المسافة الطويلة, فعافوها وما فيها, تلك الحقائب والصرر تنطوي على ملابس وأشياء وذكريات, آثروا النجاة بأطفالهم, متابعين رحلة الشقاء, بل رحلة الأمل, مستحضرين في أذهانهم ما سمعوه من الأجداد, عن حكاية مشابهة بكل تفاصيلها, بأسبابها ونتائجها, باتجاهها ووعورتها, بسحابة الأمل التي تظلل الموكب وترافقه في حله وترحاله, تقاسم جانبا الدرب الآن هذه الأشياء, كما تقاسم من قبل أجداث من هلكوا, ودفنوا في المواقع ذاتها.
رائحة الطيون تزكم الأنوف بعبقها وعطرها, تتذكر أم حليمة قول شاعر, كان رفيقا للاستاذ سعيد في معتقله: سنعود لنملأ صدورنا برائحة الطيون والزعتر البري, لا بد أن نعود أكثر محبة وتآلفا مما كنا, أجابته بأن الطيون والسنديان كله احترق, لن يشم حين يعود سوى رائحة البارود, قال بأن جذور الطيون لا تموت, ستنبت شجيرات أكثر خضرة ورواء من سابقاتها, ويعود الوطن محررا من الطغيان و سيكون أجمل وأدفأ مما تركناه, أتراه كان مؤمنا بما قال؟ أم أنها مجرد أمنيات؟
الليل يتطاول ويشتد ظلامه, الموكب يسير ببطء على دروب لا يكاد يتسع أحدها لعابر واحد, تتشابك الأشجار الحراجية خلالها حاجبة الرؤية , ناثرة الأشواك, تعب الأطفال كما تعب العجائز, ولكن ما من سبيل لشيء سوى الاستمرار في المسير, حتى الوصول إلى بلدة يايلاداغي التركية, هنالك استأجر خليل درويش قبل استشهاده, منزلا ليؤوي فيه أخواته اللاتي لم تجف دموعهن على فراقه بعد, اشتد الظمأ بالأطفال فراحوا يبكون, ما من قطرة ماء في الدرب, ولا في جعبة أي من السائرين, راح الكبار يلاطفونهم بطيب الكلام, يعدونهم بالماء والزاد والراحة, والأطفال يزدادون بكاء, لا يريدون سوى الماء, وقد عز الماء في هذه الغابة المرعبة.
أشار الشابان المتقدمان للموكب بالاستراحة, سارع العجائز بالجلوس على التراب, ولم يكفهم الجلوس فتمددوا ليريحوا ظهورا ناءت بثقل الأجساد الواهية وبوعورة الطريق, وتوقف الشابان, يتبادلان حديثا تافها, ويقهقهان بصوت مرتفع, قهقهات ليس للضحك فيها مكان, ولا في حديثهما ما يضحك, راحت العجائز تزفر غيظا مكتوما, أهذا وقت السخافات؟ ولم الاستراحة الآن؟ والموكب لم يمش سوى مسافة قصيرة بعد الاستراحة الفائتة؟ طالت الاستراحة, وطالت معها قهقهات الشابين, وفجأة, بلا مقدمات, أشارا للموكب بالانطلاق, مبشرين بنبع ماء لا يبعد سوى خطوات عن موقعهم, بعض الأمهات غمغمت بصوت مكتوم, عاتبة على الشابين عبثهما وتجاهلهما لبكاء الأطفال المرهقين.
خطوات قليلة مشاها الموكب في الظلام, وتوقف الشابان لينيرا الدرب الوعرة الزلقة, بمصابيح ولاعات الغاز, التمع الماء على الأرض عاكسا الضوء الشحيح, فصرخ الأطفال من الفرح, هاتفين للاكتشاف العظيم, ساقية ضعيفة يجري ماؤها العكر ببطء بين الحجارة والطين, لم ينتظروا أمرا من أحد, بل انبطحوا يغبون الماء عن الأرض غبا, ما كان هنالك إناء يشربون به, وما بقي لديهم صبر للبحث عن شيء, بكت العجائز وراحت تجأر إلى الله طالبة الفرج, داعية على المتسبب بهذا الشقاء بكل ما تعرفنه من أدعية, أم محمد غاظها وجود الماء على بعد هذه الخطوات القليلة من الاستراحة, وجدت في نفسها على الشابين, أما كان الأجدر بهما أن يطلبا الاستراحة بعد هذه الساقية؟؟ أضمرت في نفسها الكثير من اللوم لهما, وقررت أن تسمعهما ما لا يطيب لهما من الكلام في أول فرصة, تساءلت عن سر هذا الضحك المستهتر, أمام بكاء الأطفال, لكنها تابعت السير صامتة, وعقلها يجمع ويطرح, ينتقي الكلام الذي يستحقه عبثهما في هذه الرحلة الشاقة, قال أحد الشابين , قاطعا عليها تداعياتها, بعد خطوات ستجدون ساقية أغزر ماء وأصفى, هيا, اتبعوني, زادها كلامه غيظا مكتوما, فراحت أطرافها ترتعد متوترة من الغضب.
مشى الموكب بصمت تقطعه شهقات البواكي, بعدما ودع أخوات خليل اللاتي انفصلن عن الموكب ليمشين في طريق آخر, متجهات الى منزل استأجره لهن اخوتهن, ليتابعن رحلة الجهاد من هناك, وظل الأطفال يتلفتون إلى الساقية, لم يرتو ظمأهم بعد, ام محمد زلت بها قدمها فسقطت في حفرة شكلتها سيول الشتاء على جانب الطريق, صرخت مستنجدة فركض الشابان, نزل أحدهما وراءها إلى مجرى السيل, ساعدها على النهوض, وأمسك الآخر بيديها, ساحبا إياها إلى الأعلى, اجتمعت النساء حولها يتفقدن ساقيها وذراعيها , يتأكدن من سلامة عظامها, ثم تابع الجميع السير.
بعد خطوات قليلة توقف الشابان في المقدمة, وأخبرا من ورائهما عن ساقية عريضة, محذرين من السقوط في مائها, انبطح الأطفال مرة أخرى يشربون الماء بحرقة الظمأ, وأنار أحد الشابين ضوء ولاعته الصغيرة, باحثا عن شيء ما, بعد قليل دخل الأجمة الشائكة, وعاد بعبوتين بلاستيكيتين فارغتين, ملأهما بالماء وأمر الموكب بمتابعة السير, , سار الموكب وقد اطمأن لوجود الماء, وتحرك الجوع في الأحشاء, فراح الصغار يطلبون الطعام, والكبار يصبرونهم, واعدين بقرب الوصول إلى حيث الزاد والراحة.
أم محمد العجوز المقهورة, نسيت آلامها وسارعت خطواتها لتلحق بالشابين المتقدمين الموكب, أمسكت بذراع أحدهما وسألته همسا عن سر تلك الوقفة وتلك القهقهات التي لم تكن في توقيت مناسب, أجابها همسا بأنه سيخبرها, ولكن بعد وصول الموكب الى مأمن.
*** *** ***
وصل الموكب إلى مخفر الشرطة التركية الحدودي مع بزوغ الفجر, أدخلهم رجال الدرك إلى مكان واسع مسور بالأسلاك الشائكة, وتخلفت أم محمد, راحت تبحث بعيني فضولها ولهفتها عن الشاب الذي وعدها بالإفصاح عن السر, وحين لمحته سارعت اليه, تسأله وتلحف بالسؤال, أجابها بكل بساطة, أنه وأصدقاءه يرافقون مواكب النازحين كل يوم حتى حفظوا ذلك الدرب كما يحفظون أكف أيديهم, وأنهم كانوا يعلمون بمكان ذلك الجدول, لكن قطيعا من الخنازير البرية كان يعبر ذلك المكان, خشي ورفاقه أن تراه النساء فتصرخ خوفا, الصراخ سيستثير تلك الحيوانات ولا ندري بردة فعلها, وربما استجلب ذلك الصراخ انتباه الجيش السوري فتكون الكارثة, أو انتباه الدرك التركي فتكون الكارثة أكبر حين يلتقي الجيشان ويضيع الموكب بين رصاصهما...لذلك اخترنا أهون الشرين, بكاء الأطفال مدة إضافية لن يضر أحدا بشيء, حين ابتعد قطيع الخنازير البرية أمرناكم بمتابعة السير, أما رأيت ماء الجدول عكرا؟؟ كان هذا نتيجة مرور تلك الحيوانات.
لحقت أم محمد بمن سبقوها, حاملة تلك القصة في ذهول ملامحها, وإكبارها لعقل الشابين, سجلت اسمها عند الشرطة كما فعلت النساء قبلها, ولحقت بجمعهن, لتندمج مع عدد كبير من الرجال والنساء والأطفال ممن سبقوا ذلك الموكب الى هذا المكان, رجال الشرطة الأتراك قدموا لهم بعض الطعام الخفيف من بسكويت وفطائر, قدموا لهم الشاي, وتركوهم هكذا في العراء, لحين اكتمال عدد يكفي ليملأ حافلات يسوقونها إلى المخيمات, لم ينتظر الأطفال وصول الطعام, بل تهاووا متهالكين على الأرض ليستسلموا للنوم, نام الأطفال وبقي الكبار ساهرين يفكرون بصمت, أو ربما لا يفكرون بشيء, تجمدت العقول والقلوب, انتظارا لما هو آت, وتمحيصا بما مضى, انقضت معركة الحفة بعد كر وفر دام عشرة أيام, وانجلت لصالح القوة العسكرية الهائلة, التي لا يملك مثلها المقاومون, لم يبق سوى استباحة المكان بكل ما فيه, فكانت هذه الهجرة, لم يكن ذلك المكان هادئا, بل يضح بحركة وأصوات أسر تصل تباعا من محافظات حدودية أخرى, حتى اجتمع العدد الكافي.
*******
كان صباحا مفصليا في حياة أسرة حليمة, حين انشغلت الأم باعداد مائدة الفطور, وحملت حليمة دميتها, تهدهدها, وتغني لها:
بابا جاب لي صندوقة
ما بتعرفو شو فيها
فيها أشكال وألوان
من عجايب الزمان
فيها طابة بتعلى هيك........
صرخ الأب مؤنبا غاضا: اخرسي, بابا لم يجلب لك شيئا, هو عاطل عن العمل ينتظر طعامه من مال زوجته, صمتت الطفلة لحظات ثم انخرطت في بكاء مر, لحقت بأمها الى المطبخ تسألها: هل فعلت ما يغضب أبي؟ ضمتها الأم الى صدرها, مهدئة من روعها, تخبرها أن أباها يعاني صداعا في رأسه, وربما أزعجه صوتها المرتفع وهي تغني فزاد من ألمه, تركت ابنتها بعدما كفت عن البكاء, وحملت بعض الأطباق لتضعها على المائدة, فلم تجد زوجها حيث تركته, لحقت به الى غرفة نومهما فوجدته عاري الجذع يبحث في خزانة الملابس, وقفت مشدوهة تتأمل آثار السياط على ظهره وكتفيه, وبقعا أخرى زرقاء وبنفسجية لا تعرف سببها, انتبه لدخولها فسارع لستر جسده بملاءة السرير, وصرخ في وجهها طالبا منها مغادرة الغرفة, أطاعت أمره وانسحبت بصمت, جلست على المقعد الذي يلي الباب تترقب, ممسكة دموعا كادت تفر من عينيها, لكنها حبستها خوفا على إحساس ابنتها, بعد قليل خرج من الغرفة مرتديا بنطالا وقميصا قديمين, كان قد عافهما من قبل, اتجه مسرعا الى باب البيت, غادر بصمت , صافقا خلفه الباب بعنف, تاركا زوجة تحمل على عاتقها صبرا تنوء به الجبال, وطفلة حيرى, لا تعرف لما يجري أمامها تأويلا فتلجأ للبكاء.
أكملت الزوجة عملها, ارتدت ثيابها وصحبت ابنتها الى مدرستها, ثم اتجهت الى عملها, يقصم القهر ظهرها, لقد فهمت مقدار المذلة التي يشعر بها رجل كريم, بعد خروجه من المعتقل, كاتما خبر التعذيب الذي أخضع له جسده هناك عن أقرب الناس, محرما على زوجته رؤية جسده, وعرفت مقدار قهره اذ يعيش عاطلا عن العمل بعد تجريده من نجوم كتفيه, وطرده من عمله, ليقتات على مرتب زوجته, كم حاولت مواساته, كم حاولت إقناعه بأن البيت ومن فيه ما زال ينفق من ماله, وكانت تعلم أنه يعرف تمام المعرفة, أنها باعت حليها وأضافت الى ثمنها ما ادخرته من مال , كما باعت معظم أثاث البيت لتوفر المبلغ الذي طلبه فرع المخابرات العسكرية ثمنا للإفراج عنه, لذلك ما كان يهدأ لكلامها, بل يزداد انفعاله حدة حتى يصل الى مشارف البكاء: أنا لا يبكيني فقدان عملي, ولا تجريدي من رتبتي العسكرية, ولكن: كيف نعطى الدنية في ديننا ومعتقداتنا وكرامتنا ونصبر؟ هل يعتبر هذا عند الله صبرا؟ لماذا صبر الجيل الذي سبقنا؟ لماذا تركوا لهؤلاء الأوغاد مجالا للوصول الى حكمنا؟ لن يسامحنا الله, ولن يغفر لنا إسرافنا في أمرنا وهواننا على أنفسنا, لن يغفر لنا خنوعنا.
في ساعة متأخرة من ليل ذلك اليوم عاد يحيى, وقد أوقف سيارة شحن أمام باب الدار, أيقظها من نومها وأمرها بجمع حاجاتها من ذلك المنزل, لقد قرر الانتقال بسكنه الى دار جده في القرية, كان قراره حازما لا يقبل نقاشا, جمعت ما في البيت من ملابس وأواني, عبأتها في صناديق كرتونية, وبدأ يحيى بفك الخزائن والأسّرة, ثم استدعى العمال لمساعدته في نقلها, بعد ذلك ركب الى جانب سائق الشاحنة, وجلست زوجته بجانبه تحتضن ابنتها النائمة, في رحلة تشبه هذه الرحلة, وتختلف عنها بوجود يحيى الى جانبها هناك, وغيابه عنها هنا.
لم تسأله, بل خمنت وصدق تخمينها, يحيى اتخذ قراره بالعودة الى القرية, والاشتغال بتفحيم الخشب, يقطعه من الغابات المحيطة بالقرية, والقرى المجاورة, نائيا بنفسه عن الهوان, فاتحا بابا للرزق, يخوله شراء الصندوق الصغير, المليء بالألعاب, الذي تحلم به ابنته وتتغنى به.
********
بعد العصر بساعات, حشر الناس في باصات كبيرة وانطلقت بهم, لا أحد يدري إلى أين, لكن صوت القذائف تباعد وانخفض تدريجا حتى تلاشى, هدير الباصات يصم الآذان, والصمت العميق يلجم الأفواه ويكاد يكتم الأنفاس, التصق الأطفال بأمهاتهم خائفين, وانقطع سيل أسئلتهم, بعضهم استسلم لنوم عميق قلق, وبعضهم بقي جاحظ العينين يحدق في اللاشيء, إلى أين يذهبون؟ لا أحد يدري, ولا أحد يسأل, هدير الباصات والصمت المطبق أجج المخاوف في نفوس الأطفال فراح بعضهم يبكي وبعضهم يشكو آلام بطنه ورأسه, والأكثرية أصابهم الدوار ونوبات حادة من التقيؤ, كانت الأمهات تشعر بالضعف أكثر مما شعرت به في حياتها كلها, وظلت الباصات تهدر وسط الظلام, في دروب لم ير منها سالكوها سوى أوجاعهم.
- أمي...هل سنجوع كما جاعت الجدة أم علي؟
لم تجب أم حليمة بشيء, بل أغمضت عينيها متظاهرة بالنوم هربا من أسئلة الصغيرة التي لا تجد لها جوابا, حليمة تمشي الآن على وقع الخطى من هجرة عاشتها الجدة, عقلها ما زال يحاول الفصل بين حكاية حفظتها من الجدة أم علي وما يجري أمامها الآن من الأحداث, فيعجز, ويدفعها لطرح المزيد من الأسئلة.
- أمي ....هل نمت؟ أمي..هل ستبيعون كرم جدتي وبيتنا مقابل صفيحة من الطحين مثلما بيع الكرم الكبير؟ وهل يصلح الطحين للأكل؟
الطفلة تستحضر ما سمعته, عن حقبة جرى فيها حصار تلك القرى وإحراق زرعها, أكل الناس الأعشاب وثمار السنديان والخروب من الغابات, مات أشخاص من الجوع وبيعت بساتين وبيوت مقابل مقدار زهيد من الزاد, واشترى حميد طه رغيفا من الخبز بليرتين ذهبيتين, لكنه عاد الى بيته ليجد ابنته التي اشترى لها الرغيف قد فارقت الحياة.
ترى أين الأستاذ سعيد الآن؟ هل نزح من بيته في دمشق؟ أم أن انتماءه الطائفي جعله في مأمن؟ قال لأم حليمة قبل النزوح, في محادثة على النت, هذا الجنون الذي يمارسه رجال الدولة هو نتيجة انفلات الأمور من أيديهم, وخشيتهم من انتقال الثورة إلى معقلهم في دمشق, لذلك يركزون على حمص, هنالك تسريبات تقول بأن الجيش الحر سينتقل إلى العاصمة, لذلك نشهد الآن ذروة العنف, لا بد من توازن للقوى, بحيث تتحول الصورة من ثورة شعب إلى صراع طائفي, فخار يكسر بعضه بعضا, ليقفوا هم موقف المتفرج, وهنا تسترجع الدولة دورها الوظيفي, للفصل بين المتقاتلين, وستعلن كذبا في وسائل إعلامها بأنها تحمي الشعب من العصابات الإرهابية المسلحة, وسيصدق قطعان الشبيحة والمرعوبون فقط هذا الكلام, ولن يكون اصطفافها إلا إلى جانب أنصارها, لقد زج هؤلاء الكلاب الناس في صراعات عرقية ومذهبية, لا لشيء, الا من أجل استمرار ركوبهم على الشعب فترات إضافية, هؤلاء الوحوش لا يقتلون البشر والحيوانات فقط, انهم يقتلون منابع الخير في نفوس الناس, لا يهمهم من المجتمع سوى استمرار خضوعه لهم, لقد خلقوا أحقادا وهيئوا لثارات وانتقامات تدمر البلد في حال غادروه, يريدون جرنا إلى حرب ليست بحال من الأحوال حربنا, أرأيت؟ هذا النظام لا يتحمل فكرة السقوط أو التنحي, والشعب ما عاد يتحمل بقاء النظام, ولكن خسئوا, لن نعطيهم هذه الفرصة, نحتاج أطنانا من العقل, وعملا بدأب النمل, لنخلص الشعب من الآثار النفسية للعنف والعسكرة, التي فرضها هذا النظام القذر .
اطمأنت أم حليمة لكلامه, لكنها متأكدة كما هو متأكد, بأن هذه الثلة القلية من المعارضين المنتمين لطائفة النظام لن يتمكنوا من إيصال أصواتهم إلى أصحاب القرار, ستبقى, ان بقيت, في باب أضعف الايمان, مع ذلك سارعت بفتح محادثة جديدة معه, تخبره أن قرية بيت الشكوحي قد اعتقلت ابن عمها (ميسرة) وهو شاب مسالم, كان راكبا دراجته النارية, يستكشف الطريق أمام سيارة تنقل جرحى أصيبوا في معركة الحفة, تنقلهم إلى المستشفى الميداني في جبل الأكراد, استوقفه حاجز مسلح من الشبيحة, صادر دراجته واعتقله, قال لها الأستاذ سعيد يجب أن تحل الأمور بسلمية, لا نريد اشتعال الفتنة في قرانا, اتصلي بابن الشيخ فضل غزال, اسمه الحر, وهذا رقم هاتفه, سيحل المشكلة بدقائق.
أخذت الرقم واتصلت, رد الحر بايجابية مشجعة, ووعد خيرا, انتظرت, وانتظرت معها كل القرية المتوترة, الواقفة على أعصابها, لكن الشيخ لم يتصل, اتصلت به تستعجله فما رد, ظلت تحاول الاتصال يومين متتالين ولا يرد, في النهاية اتصلت به من هاتف غير هاتفها, عرفته بنفسها وسألته عن مصير ميسرة, اعتذر بأنه لا تأثير له على بيت الشكوحي, ولا يملك أمامهم جاها يجعلهم يستجيبون لطلبه, وقال بأنهم سلموه إلى فرع الأمن حسب القانون.
سارعت بإخبار سعيد, فقال لها ان الشيخ يكذب, ويعلم أنها لن تصدقه, ويعلم كل سكان الساحل بأن الشيخ فضل أو أي واحد من أولاده, لو وقف على مفرق أية قرية من قراهم لتسابق العجائز قبل الشباب والصغار إلى تقبيل يده, حسب القانون؟ أي قانون هذا الذي سمح لهم بقطع الطريق بحواجزهم المسلحة؟ أي قانون هذا الذي حولهم بغمضة عين إلى قطاع طرق؟ وغاب ميسرة, لم يعلم أحد بمصيره.
وصلت الحافلات إلى المخيم, استقبلها الحراس ورجال الشرطة الأتراك بحفاوة, قادوا الناس إلى خيمتين كبيرتين أعدتا لاستقبال الوافدين, إحداهما للنساء والأطفال, والثانية للرجال, خلعت بعض النساء عباءاتها, فرشنها على الأرض المغطاة بالحصى, أضجعن الصغار فوقها ورقدن إلى جانبهم, أسعدهن حظا من لم يكن لديها أطفال, رمت بجسدها المنهك على الحصى بصمت واستسلمت للنوم, حين جاء الحراس بوجبة العشاء في أطباق من الكرتون, كانت معظم النساء والأطفال نياما.
حليمة, التي كانت ساهرة طوال الطريق, وقد كفت عن طرح الأسئلة, وانشغلت بالتحديق من خلال الزجاج, تحصي عدد القرى وعدد أعمدة النور, تناولت نصف عشائها وغرقت في النوم, جلست الأم قريبا منها, تراقب أنفاسها, وحركة مقلتيها تحت الجفنين, التي تشي بأحلام مضطربة, ظلت في جلستها تلك إلى أن نام جميع من حولها ولم يطرق النوم عينيها المتعبتين, سافرت بأفكارها إلى سنوات مرت من عمر زواجها, كنت هي الأسعد بين لداتها, مضت كأنها الحلم, كان يحيى يغادر البيت متثاقلا, ويعود اليه, بل إليها مأخوذا بالشوق, ما نسي يوما أي واجب من واجباته تجاهها أو تجاه بيتها وأهلها, وأهله وجيرانه, كانت تتساءل في سرها, هل يحيى رجل عادي كالرجال؟ أم أنه قديس رماها حسن طالعها في دربه لتكون أعظم النساء حظا؟؟ كانت كثيرا ما تخاف من هواجسها, وتتذكر قول أمها( لا يحسد النعمة الا صاحبها) ما كانت تحسد نفسها, بل كانت تشكر ربها على هذه الهبة, إلى أن جاء يوم....
يحيى ضابط في سلاح البحرية, ويحق لمن كان في مثل رتبته الاستئثار بغرفة خاصة في السفينة التي يقودها, كان يحيى في ذلك اليوم يصلي الظهر في غرفته, وقد نسي إقفال الباب بالمفتاح, فتح أحد العساكر باب الغرفة, ثم أغلقه بسرعة, أكمل يحيى صلاته وقد آمن أن هذا اليوم هو آخر أيامه في الجيش, استدعاه قائد الموقع للتحقيق, ثم أودعوه المعتقل تسعة أشهر متواصلة, بحثت عنه زوجته وأهله حتى أعياهم البحث, دفعوا من المال ما يملكون وما لا يملكون, رشاوى لأصحاب النفوذ والواسطة, حتى خرج من سجنه, لكنه خرج مجردا من رتبته, مطرودا من وظيفته, خرج بإشارة حمراء على قيده تفيد بتجريده من الحقوق المدنية كالمجرمين, كان مقهورا محطما, كئيبا, عاد إلى أهله كأنه شخص آخر غير يحيى الذي يعرفون, ما عاد يتحمل أسئلة أمه ولا مناغاة ابنته, ما عاد يدير حديثا مع زوجته, وان بدأته بحديث أشار لها بيده أن اصمتي...وصمتت منذ ذلك اليوم, لم تزعجه بسؤال ولا جواب, لم تطلب منه شيئا يخصها أو يخص بيتها, رغم ذلك كان يمضي معظم وقته خارج البيت, يعود إليه لينام, لينام فقط, ويوصيها في كل مرة بألا توقظه مهما كان السبب.
سنوات مرت على هذا الحال, والمرأة صامتة صابرة, تعيش حياة الأرامل مع هذا الزوج الغائب الحاضر, ولكن...منذ سنة وثلاثة أشهر فقط, ومع بداية الثورة تغيرت أحواله, بات أكثر حيوية ونشاطا, يظهر الكثير من التوق الصامت لزوجته, يحبها بعنف كأنما يريد تعويضها شوق وحرمان السنوات الماضيات, ثم يهرب من عينيها, ومن حديثها بالعنف ذاته, يغادرها بأسرع مما جاء, وفي نهاية الأشهر التسعة الأولى من عمر الثورة,ولدت ابنها حمزة, كانت الحفة حينها تكتفي من الثورة بالمظاهرات, كان يحيى يترك منجل الحطب , ويترك مشحرته بحراسة بعض رفاق الفحم, ليقود تلك المظاهرات كأنما يقود فرقة عسكرية, ينظم الخطى, يشرف على تخطيط اللافتات واختيار عباراتها, كان سعيدا بكل شيء, وصامتا معظم الوقت, كان يعود من المظاهرات ببهجة واضحة على ملامحه, ما تلبث أن تنطفئ أمام المائدة, يعاف الزاد متعللا بأنه تناول طعاما مع رفاقه, لكن بشرته الجافة, وجسده الذي ركض بخطوات عجلى في دروب النحول يكذبان قوله, لم يعد لوده القديم مع زوجته بعد خروجه من سجنه, بل صار يشعر بالمذلة اذ يعتمد في نفقة البيت على مرتبها, يهرب منها بعينيه, يهرب منها بصمته المديد, كانت تدس نقودها في جيبه سرا, فتصبح وقد نفض جيوبه منها ونثرها على الأرض أو السرير حيث وضعتها, وخرج متخفيا حاملا مذلته بين جنبيه, ما لبثت أن كفت عن محاولاتها, وراحت تشتري بنفسها كل ما يحتاجه البيت, حتى عادت للسكن في القرية, وعادت النقود لتجري بشح شديد في يد يحيى, فالفحم قرشه أسود مثله, لكنها كانت مبالغ تكفيه لاسترداد الشعور بكرامته ورجولته.
عند هذا الخاطر ما عادت تطيق صبرا, خافت على سرها من الافتضاح بين النساء, انسلت إلى خارج الخيمة بهدوء, وجدت في الباحة كرسيا مقلوبا, جاءت به إلى مكان قريب من باب الخيمة, جلست تراقب السماء في هذه الليلة المقمرة الباردة, والهواء الذي يهب جافا مغبرا, جلست بصمت, وأطلقت لدموعها العنان, ترى أين أنت يا يحيى؟ حي بين الأحياء أم شهيد مع الشهداء؟ أم جريح غريب في إحدى مشافي تركيا, وليس حولك من يناولك كأسا من الماء؟ أما زلت تبحث عن فرصة تختلي فيها مع دموع القهر؟ أما زلت تبكي؟ هل تدرك وقع دموع الرجال على نفوس النساء يا يحيى؟ هل تدرك ما كانت تفعله دموعك في روح زوجتك التي تعشق كل شيء فيك؟ أما نفضت هذه الثورة عن قلبك غبار القهر يا يحيى؟.
قبل اجتياح قرية الجنكيل بأيام, أرسل الجيش مجموعات استطلاع, لرصد مداخل ومخارج القرية, توقع العقلاء من الرجال اجتياحا كاسحا, فطلبوا من الشباب الانسحاب الى الغابات والحراج المحيطة بالقرية, والاختباء في الكهوف والمغاور والأنهار, وهم جميعا لا يملكون سوى بضع عشرات من بنادق الصيد, لذلك انجلت الغارة بلا مواجهة, وساعدتهم السماء فأرسلت مطرا مدرارا, شديد الغزارة, لم ينقطع لدقيقة واحدة, وانحصرت الخسائر ببعض قطع الأثاث التي نهبها الشبيحة من البيوت, وبالكثير من الأبقار والخيول والحمير, تم قتلها انتقاما وكيدا, وكذلك ارتقى ثلاثة من الشهداء, كانوا باكورة ضريبة الدم, لتلك الثورة.
شرح كبير القرية للشباب أن الحروب تحتاج توازنا في القوى, أرجعهم الى التاريخ, أفهمهم أن الفتوحات الإسلامية لم تنتصر بالحماس وحده, بل بإعداد القوة النوعية, كان لديهم الخيل العربية الرشيقة, مقابل خيل الرومان الثقيلة والبطيئة, وكانت لديهم السيوف الخفيفة, مقابل الرماح الكبيرة الضخمة, ترافقهم الابل في غزواتهم, يحملون عليها أمتعتهم وزادهم, وتمدهم باللبن غذاء, وهي ذاتها غذاء, بذبحون بعضها فيأكلون اللحم, في حين يبتعد الأعداء عن مواطنهم, وعن زادهم, هذا الكلام لم يقنع يحيى, المتعطش للانتقام, فأخذ يعد العدة لمعركة كبيرة, متجاهلا توصيات الحكيم وتوجيهاته, ليفتتح بعد ذلك بشهرين معركة الحفة.
الحراس الأتراك على علم بما يدور داخل سوريا, وما حولها, فتراهم يتعاملون مع كل تحرك داخل المخيم بحذر شديد, لذلك فتشوا جميع الحقائب, أو ما تبقى في أيدي اللاجئين من حقائب, صادروا منها سكاكين الطعام والمقصات وكل أداة حادة, وراحوا يراقبون بعين لا تغفل, وبكاميرات المراقبة, تحركات الناس داخل الخيام, تقدم أحدهم من أم حليمة في مجلسها, سألها بلغة عربية مكسرة ان كانت تريد شيئا, من بين دموعها, وبغصة حارقة, أشارت له بالرفض.
وقف عاجزا أمام دموعها, وما لبث أن انصرف ليرسل زميلا له يجيد التحدث باللغة العربية, ألقى تحية لطيفة وسألها عن حالها, أن كانت تشكو شيئا أو تطلب شيئا, أشار لها إلى موقع الحمامات والمغاسل, لكنها ما استطاعت الرد بكلمة واحدة, بل خالطت دموعها الصامتة بعض الشهقات التي حاولت كتمانها فما استطاعت إلى ذلك سبيلا, انصرف الرجل من أمامها, غاب قليلا ثم عاد بكوب من الشاي التركي الأنيق, قدمه لها بتهذيب شديد, وأظهر الكثير من التعاطف معها ومع قضيتها, أخذت الشاي شاكرة, وكفت عن البكاء, راحت ترتشف على مهل, محدقة في السماء, التفتت إلى الرجل الواقف قريبا منها, سألته عن طبيعة الحياة في المخيمات, وعن عدد اللاجئين السوريين الذين دخلوا تركيا, شكرت الحكومة التركية ممثلة بشخصه على لطف الاستقبال وسعة الصدر, وساد الصمت, انتهت من شرب الشاي, تلفتت حولها بحثا عن مكان تضع فيه الكوب, سارع الرجل, فأخذه منها وعاد به إلى محرسه.
السماء واسعة واسعة, ضياء المصابيح الكثيرة المتناثرة بكثافة في المخيم يحجب بريق النجوم, القمر يبدو مصباحا باهتا يقف في البعيد, يحاول التسلل بنوره إلى العمق مستكشفا لكنه يتراجع خجلا عاجزا أمام المنظر الكئيب, أمام قهر الناس اللاجئين المقتلعين من بيوتهم وأوطانهم, النائمين على الأرض المحصبة هنا, ويكتفي بفرد ضيائه على السهول الممتدة خارج حدود المخيم, والمزروعة بقمح في موسم الحصاد, تبعته أم حليمه بنظرها, وقد سرت بهجة خفيفة في نفسها, ابتسمت للقمر وهمست: أحبك يا يحيى, ما تزال أم حليمة عاشقة للقمر في كل أطواره منذ طفولتها, لذلك سرحت ببصرها وشردت بأفكارها, في الحفة لا يوجد مثل هذه السهول, منطقة جبلية مدرجاتها مزروعة بأشجار الفواكه والزيتون, وجبالها مكسوة بالغابات, ينسجم ضوء القمر مع خضرتها فيزيدها غموضا وروعة, وتتنادى بنات آوى في وديانها فيتكسر صدى عوائها على الجروف, مما يبهج القلب فتحلق الروح في فضاءات من الفرح اللذيذ, منتشية ببهاء المشهد وهدوء الليل, ترى أين أنت يا يحيى؟.
رجع الحارس التركي اليها, ألقى تحية وتوقف, سألها ان كانت تحتاج شيئا, طلب منها أن ترتاح لأن سفرها كان طويلا مرهقا, أجابته بأن من سرق منه وطنه لا يمكن أن يرتاح.
- يبدو أنك امرأة مثقفة, وهذا يفتح المجال واسعا للحديث عن أزمتكم
- تفضل, قل ما عندك
- إن المخيمات وأرض اللجوء ليست وطنا لكم يجب أن تتحملوا قسوة العيش هنا, اياكم والمطالبة بالرفاهية, ...ولتكن هذه الحياة القاسية هنا حافزا لكم للعودة إلى الوطن
- كلامك صحيح, نحن لا نريد أن نعيش كالفلسطينيين لاجئين
- حسنا, أنت تعلمين هذا, لقد خرج الفلسطينيون من بيوتهم يحملون مفاتيحها, على أمل العودة إليها بعد ساعات
وامتدت الساعات أياما..وتطاولت الأيام لتصبح سنوات...وتوالت السنوات لتصبح عقودا.. أجيال وأجيال من الفلسطينيين ولدت وكبرت وشاخت في ارض اللجوء
ما زالوا يعاملون في كل البلاد العربية التي احتضنتهم في البداية على أنهم لاجئون, مواطنون من الدرجة الثالثة, وربما أقل من هذا, وانظروا ما حل بهم.....محاولات التخلص منهم وإبادتهم لم تتوقف على مدى هذه العقود, محاولات شق صفوفهم وشرذمتهم كذلك لم تتوقف
القذافي بعد توقيع معاهدة اوسلو جمع ما لديه من الفلسطينيين في سفينة واحدة وألقى بها في عرض البحر, قائلا لهم صار لديكم وطنا وحكومة, ما الذي يربطكم ببلادنا؟
في مصر ما ان تفتح الأنفاق بين سيناء وغزة حتى تغلق من جديد...كل مرة بذريعة جديدة...والفلسطينيون يقفون على معابر الذل ينتظرون الاعتراف بإنسانيتهم المفقودة...وما حدث ويحدث في لبنان من تصفيات وإبادة لا يخفى على أحد
أرجوكم يا اخوتي السوريين في أراضي اللجوء لا نريد تكرار مأساة الفلسطينيين بسوريا...لا نريد تحسين ظروف المعيشة في ارض اللجوء حتى لا يفكر البعض بالاستقرار فيها لا بديل لكم عن سوريا.....لا بديل افهموا هذا جيدا.
توقف الرجل عن الكلام, لم تجد أم حليمة ما ترد به عليه, ما نطق به عين الحقيقة, ولكن من يسمع هذه الجماهير صوته, كيف توصل لهم ما قال؟ لابد أن يعي الجميع هذه الفكرة, لابد أن تكون كلماته مصباحا يستضاء به خلال رحلة النزوح والتشرد, الحكومة التركية لم ترض بتسميهم لاجئين, بل ضيوف, يجب على الضيف الالتزام بأدب الضيافة, و بألا يستكين للإقامة في منزل مضيفه مهما كانت الظروف, لابد من اتخاذ هذه الخيام حافزا للعودة, لابد.
بقيت على صمتها محاصرة بالخجل والمذلة, هي امرأة ضعيفة جاءت بولديها ايثارا للسلامة, ولكن هل كانت حقا تبغي السلامة؟ لا, كانت تفضل البقاء تحت النيران بالقرب من زوجها, لكن الأمر لم يكن بيدها, ما زال الرجل التركي واقفا أمامها, تململت روحها بين جنبيها, ما عادت تطيق من هذا الرجل المزيد من الكشف عن مذلة قومها على مدى العقود الماضية, ولكن كيف تصرفه؟
بكاء ابنها من داخل الخيمة أنقذ الموقف, تركت كرسيها وهرعت اليه, حملته وراحت تهدهده بين ذراعيها, اكتشفت بللا في ثيابه, وما لديها ما ينفعها في مثل هذا الحال, جاست بعينيها أجساد النيام حولها من نساء وأطفال, وعقلها ما زال يدحرج كلمات الحارس يمينا وشمالا, كل ما قاله صحيح, ولكن ما الوسيلة لتنفيذ نصائحه؟ يجب إيقاظ كل هؤلاء الناس من غفلتهم, وإفهامهم حقيقة ما يجري, وما يراد بهم, الطفل بين ذراعيها لم يصمت, بل زاد بكاءه حدة, ربما يتألم من التهاب جلده المحبوس في ثيابه المبللة طوال الرحلة التي استمرت ساعات طويلة, من بداية الحدود السورية التركية في الغرب إلى نهايتها في الشرق, قامت تتمشى به داخل الخيمة فما أفلحت في إسكاته, ما ذنب هؤلاء المتعبين لتوقظهم ببكاء ابنها؟ خرجت به من الخيمة تحمله, الفصل صيف, وقد سافرت القافلة على جناح السرعة, في النهار القائظ, مازال ولدها يرتدي ثيابا تكشف ذراعيه وساقيه, لسعة البرد في ليل الصحراء وثيابه المبتلة جعلته يرتجف, حاولت مناجاته مشيرة للقمر, لكنه لا يريد قمرا ولا نجوما, يريد إيقاف ألم جلده الملتهب.
مرة أخرى عاد اليها الحارس, سألها إن كانت تحتاج شيئا, فأشارت للصبي, مابه؟ سألها, أجابت بأن ثيابه يجب أن تستبدل بأخرى جافة, وهي لا تحمل معها ما تحتاجه, غادرها مسرعا وغاب وراء المحارس, عاد بعد قليل يحمل كيسا كبيرا, قدمه لها, قائلا, خذي حاجتك, وانظري ان كان هنالك من رفقائك من يحتاج, ذهبت بولدها إلى الحمام, خلعت عنه ملابسه, كانت تخشى عليه من برودة الماء تضاف إلى برودة الليل, لكنها وجدت الماء ساخنا, والحمامات نظيفة مجهزة بالمرايا والصابون, حمدت الله وشكرت للمضيفين جهدهم, غسلت الطفل وألبسته نظيف الثياب, ثم عادت به إلى الخيمة وقد كف عن البكاء.
كانت تأمل أن ينام طفلها لتعود لتداعياتها, لكنه راح يناغي سعيدا ضاحكا, بابا...بابا...ما الذي يفرحك أيها الطفل الشقي؟؟ ما الذي يدعوك للمناغاة وسط هذا الكم من القهر والألم؟؟ لا تستمع إلى حزني يا ولدي.. دعك في مناغاتك وافرح...عسى أن يكون فرج الله قريبا, عسى أن يجمعنا بمن تناديه قريبا لنعود إلى حياتنا الهانئة الآمنة, نسيت همومها واندغمت مع فرحه, راحت تهمس له بعذب الكلام, تحكي له عن أبيه المقاتل في الجبال, تحكي له عن أمل بعودة مظفرة إلى بلد يمحى عنه الظلم ويخسأ الظالمون.
هدأ الطفل واستسلم للنوم, أراحته على الأرض وجلست قبالته تتأمله بشغف, ما أشبهه بأبيه, في سنوات زواجها الأولى كانت تجلس مثل هذه الجلسة, تتأمل زوجها النائم, تتأمل وجهه المماثل لوجوه الأطفال براءة ووداعة, وتشكر الله آلاف المرات أن رزقها هذا الزوج, والآن أين أنت يا يحيى؟ مئات من الكيلومترات تفصلها عنه, وهي لا تعلم أجريح هو أم شهيد؟ أم سليم معافى ما زال يقاتل؟ لم يودعها وأطفالها حين سافرت نازحة مع هذه الجموع النازحة, ولم تره بين رجال الجيش الحر في ساحة القرية ولا في أية قرية من قرى جبل الأكراد, التي تقاذفتها مع بقية الأسر هربا من رشاشات الطائرات, ولا حدثها أحد عنه بعد معركة الحفة, ترى أين أنت يا يحيى؟؟؟
من المسجد المقام في خيمة, ارتفع صوت المؤذن يدعو لصلاة الفجر, وقفت تنصت بخشوع, تردد مع المؤذن ما يقول, وراح فكرها يسبح في ماضي أيامها, حين كانت تترك ابنتها حليمة نائمة في سريرها, وتلحق بزوجها إلى فراشه في الشرفة, في الليالي الصيفية المقمرة, يتحدثان في كل شؤون الحياة, الخاص منها والعام, يتناجيان, يتبادلان كلمات الحب والغرام, يتأملان القمر والنجوم, حتى يصدح المؤذن من مسجد الحي ينادي للصلاة, يصمتان, ثم يصليان الصبح ويستسلمان للنوم, ما كان أروعها تلك الليالي؟ أتراها تعود؟؟
توجهت إلى الحمامات, توضأت هناك, ودعت ربها بكل ما تحفظ من أدعية, أن يفرج هم هذه الأمة, وأن يعيد اليها زوجها سليما معافى, صلت الفجر واضطجعت بجانب ولديها, وما لبثت أن غرقت في النوم.
طلوع الشمس أيقظ النيام, الجو صحراوي قاري, الفرق شاسع بين حرارة النهار وبرودة الليل, فما ان عم النور الأرض حتى بدأت درجات الحرارة بالارتفاع, وتحولت الخيمة الكبيرة إلى ما يشبه الحمام البخاري, العرق يسيل أنهارا على أجساد اعتادت لطف الجو في الحفة وسائر جبل صهيون المطل على البحر, وبدأت معزوفة البكاء, الأطفال لا يطيقون الحر, ولا يتحملونه, لم تجد الأمهات من سبيل لتخفيف الحر سوى الحمامات, ازدحمت الحمامات بالنساء والأطفال منذ الصباح الباكر, يغتسل الجميع ويخرجون, ثم يعودون ليغتسلوا مرات ومرات مدفوعين بشدة الحر الذي ما اعتادته أجسادهم الغضة, ولا تمكنت من التآلف معه في هذا الوقت القصير, الشمس تبدأ منذ شروقها برمي هذه السهوب المقفرة بشواظ من نار, والخيام تنقلب أفرانا عالية مغلقة, تحتفظ بالحرارة ولا تسمح بمرور تيارات الهواء, بحثت النساء عن ظل يجتمعن به خارج الخيام, وهن المعتادات على الركون لحياة بيوت مغلقة, لا يراهن فيها الا من طرق الباب وأذن له بالدخول, الضرورة ألجأتهن للقعود في العراء, ينشدن نسيمات الصباح, هاربات بأطفالهن من جحيم الخيام.
أعلنت الساعة السابعة صباحا, الشمس وصلت في مسارها إلى رأد الضحى, حضرت عربات خشبية يدوية الدفع, توزع الطعام على اللاجئين, يمشي بها رجال أتراك, يرتدون ثيابا شبيهة بثياب الأطباء في غرف العمليات, قفازات وأقنعة للوجه ولبس موحد, وزعوا الخبز والجبن والمربى والزيتون واللبن, إفطار ممتاز, ولكن....أنى للحزينة المهجرة من بيتها أن تستطيب طعاما؟ تزاحم الأطفال الجائعين على الطعام, تشاجروا, بكوا, ثم أكلوا وانصرفوا لألعابهم, ودنت الأمهات على استحياء, يغالبن دموعهن, تناولن ما تيسر من طعام, ثم نظفن المكان ورجعن لمجلسهن في الظل خارج الخيام.
انتظم الأطفال في حلقات, يرددون ما حفظوا من أغنيات وهتافات أثناء المظاهرات, يقطعها أحدهم بين حين وآخر بصرخة: تكبير...فيهتف الجميع الله أكبر, وتبتسم الأمهات, حضرت مجموعة من الموظفين الأتراك, يحملون دفاتر وسجلات, اقتربوا من مساحة الظل فانطفأت ضجة الأطفال ولاذ الجميع بالصمت, ما زالوا منذ اليوم الأول للنزوح يتنقلون من مجهول إلى مجهول, الآفاق مسدودة أمام أي حدس أو توقع, أشرأبت أنظار الجالسات على الأرض إلى وجوه القادمين, وحين توقفوا, راحت الأفكار تتصارع في رؤوسهن وتسقط صرعى, ألقى كبير الموظفين تحيته, بلكنة غريبة, السلام عليكم, ردت النساء التحية كما رد الأطفال بأصوات هامسة, أصوات أخمد جذوتها الترقب, قال الرجل كلاما باللغة التركية, أعاده بعده الترجمان باللغة العربية الفصيحة المكسرة, فهمت منه النساء أن مقامهن في جناح الاستقبال قد انتهى, وعليهن استلام خيامهن الخاصة, وفق الجدول الذي أنجز خلال الليل, مستندا إلى الإحصاءات المسجلة في السجلات الأساسية.
راح الرجل يقرأ الأسماء, ويشير بيده, فيتبعه المترجم, يشرح لهن ما قال, ويشير إلى أماكن الخيام, حملت النساء صغارهن, وما تبقى لديهن من ملابس في حقائب صغيرة, وتبعن ثلة الموظفين سيرا على الدروب المفروشة بالحصى, والمتجهة غربا, توزعن في خيام مجهزة بفرش من الإسفنج, وملاءات رقيقة, وبضعة أطباق وقدور وملاعق, ثم...لا شيء...كانت أم حليمة تسير في الموكب, لكنها تخلت عن ذهولها وراحت تتفحص المكان بدقة, لا أحد يعرف كم من الزمن سيمكثون هنا, تلفتت حولها, كانت أم حسن تسير خلفها, تحمل أحد أحفادها وتمسك يد الآخر, وتسير قربها ابنتها محاسن, حاملة بعض الحقائب, تتبعهما كل من زوجتي ابنيها, لم تتمكن المرأة الستينية من كتم حزنها وألمها فأطلقت لدموعها العنان, ازداد شعورها بالعجز حدة فتحولت دموعها الصامتة إلى شهقات وما لبثت ابنتها وزوجتي ابنيها أن شاركنها البكاء, توقف الموظفون الأتراك, وراحوا يواسونهن بكلمات لم يفقهن منها شيئا, لكن التأثر كان واضحا في نبرة أصواتهم, وأكمل الموكب سيره إلى الخيام.
ما تزال أم حليمة هي المرأة الأكثر قوة, والأقوى صبرا بينهن, وضعت أشياءها في خيمتها ولحقت بأم حسن, راحت تواسيها وتصبرها, وتعدها بالعودة إلى بيتها سالمة غانمة...كلها أيام قلائل ويعود الجميع, كانت أم حليمة تخاطب العجوز همسا, تمسح على رأسها وكتفيها مواسية, وصوت يصرخ, يضج في أعماقها : أنت كاذبة, هجرة من سبقوكم استمرت خمس سنوات, منهم من رجع إلى قريته ومنهم من استقر في مهجره, فتجيب نفسها: حينذاك لم تكن تقليعة الجنسية قد درجت بعد, من استقروا في مهجرهم سجلوا تلقائيا كمواطنين في تلك البلاد, الآن أنتم لاجئون, شحاذون, تنتظرون الصدقات والمعونات, ويجيب صوت آخر من داخلها: لا, نحن مجاهدون, ولا بد لنا من العودة لديارنا بعد النصر, أعلناها منذ البداية هي لله, لا للمال ولا للجاه, وأعلناها: مالنا غيرك يا الله...لا يمكن أن يخذلنا الله وقد توكلنا عليه بصدق وإخلاص نية.
قالت أم حسن: قبر ابني حسن لم تجف ماءه بعد, وإخوته الخارجين للتو من معتقلهم انضموا للثورة, أي بؤس هذا؟؟ تواسيها أم حليمة : أبناؤك أبطال يرفعون الرأس, حق لك أن تفخري بهم, لا أن تيأسي من رحمة الله, كل رجالنا هناك, تلفتي حولك, هل ترين سوى النساء والشيوخ والأطفال؟.
حسن ابن أم حسن أصيب بحادث سيارة قبل اندلاع الثورة بزمن ليس بالبعيد, وكان شرطيا معروفا بنزاهته, وسط جهاز للأمن لا يعرف معنى الشرف أو النزاهة, نقل بعد الحادث إلى المستشفى, عادته أمه وإخوته, كان صاحيا, وبحالة صحية جيدة, لكن إهمال الأطباء كان واضحا, ودعوه على أمل شفائه, ورجعوا في اليوم التالي, لم يجدوه في سريره, سألوا الممرضة فأخبرتهم أنه قد مات, هكذا بقلب بارد خال من الإحساس, و كأنها تخبرهم عن حدث لا يعنيها ولا يعنيهم, صرخ أخوه كيف مات؟ لقد قتلتموه, ردت على صراخه بصراخ أقوى: حافظ الأسد بنفسه مات, أفلا يموت أخوك؟ طبعا حافظ الأسد الذي كان مكرسا للأبد, ما كان أحد منهم يعتقد أنه سيموت, لكنه مات, أفلا يموت حسن؟ لم يتحمل محسن كلامها فصفعها على وجهها صفعة رمتها على الأرض, تدخل الطبيب المناوب مؤازرا الممرضة, فضربه أيضا وشتم حافظ وبشار الأسد, حضرت فورا دورية أمن المستشفى وقادت إخوة حسن الأربعة مع خاله إلى المعتقل, ورجعت أم حسن وحدها إلى القرية مع جثة حسن, كأن وفاته وحدها لا تكفي لكسر ظهر الأم المسكينة, ليضاف اليها اعتقال أربعة من أبنائها , واثنين من إخوتها, غابوا عنها شهورا عدة, لا يعلم الا الله كم مر عليهم من أصناف التعذيب والأذى الجسدي والنفسي, الذي لا يسلم منه أي شخص دخل المعتقل, ولا يعلم الا الله, مقدار صبرها واحتسابها, كل أهل البلد يعرفون تفاصيل التفاصيل عن محنتها.
كفت أم حسن عن البكاء, بعدما طرحت سؤالا ظل يلوب في وجدانها ولا تقوى على البوح به, من سيأتيني بخبر عن ابني أسامة؟ أعلم أنه قد نقل بسيارة الإسعاف إلى تركيا, وهل تركيا قرية صغيرة لأبحث عنه بين مدنها ومستشفياتها؟ صمتت, وصمتت النساء من حولها, ما عاد هنالك الا صوت الخيام تخفق مهتزة مع الرياح, وضجة الأطفال اللاعبين أمام الخيام, يتصايحون ويتخاصمون ويرددون أغنيات الثورة, تسربت النساء واحدة تلو أخرى, عائدات إلى خيامهن, ليستكشفن نوع الحياة الجديدة, التي فرضت عليهن, ولا عهد لهن بها, راحت كل واحدة توصي أبناءها بعدم الابتعاد عن الخيمة خشية الضياع, وأي ضياع؟ الكل هنا ضائع شارد غريب, الكل هنا مؤمن بأن هذه الاقامة لا بد أن تكون قصيرة, يعودون بعدها لبيوتهم وديارهم, بعدما يسقط النظام أسوة بالأنظمة التي سبقته للسقوط, في تونس ومصر وليبيا واليمن.
أسامة ابن أم حسن منعه أخواه من مغادرة البيت يوم المعركة الكبرى في الحفة, أمراه بالبقاء إلى جانب أمه الثكلى, التي لم يمض الا القليل على فجيعتها بولدها البكر, والذي كان عمود بيتها, والأحب إلى قلبها, لم يستطع الجلوس, تبع أخويه إلى الشارع, التقى هنالك بأحمد, سأله ان كان يملك سلاحا, فهز رأسه بالنفي, وسالت دموع القهر على وجنتيه, قال له : تعال الى المسجد, لنرفع تكبيرات التشجيع للمقاتلين, نفعل كما تفعل النساء على سطوح المنازل, دخل الاثنان المسجد, فتحا مكبرات الصوت وراحا يطلقان التكبير, لكنها سرعان ما تركا موقعهما, وذهبا الى الجرف الفاصل بين القرية وساحة المعركة, هنالك وجدا رجالا يجأرون بالدعاء, ويبكون, وقفا يبكيان مع البواكي عجزا وقهرا, جاء ابن عم لأحمد, أعطاه بندقية صيد, فخطفها بلهفة وانطلق يجري الى حيث المعركة, وظل أسامة واقفا حيث كان, وقد تحول بكاؤه الصامت نحيبا, مر به أبو فادي, أخبره أنه يملك بندقية صيد لا يملك سواها, أعطاها له مع بضعة طلقات, أخذها وقد تحول بكاؤه فرحا وطربا, ذهب الى بيته يودع أمه, مؤكدا لها أنه ليس بأفضل ممن ذهبوا يقاتلون, ولا هو بالجبان ليرضى بالجلوس مع النساء, أوصته بأخويه خيرا, أخذ سلاحه ومضى راكضا في أقصر الدروب وأشدها وعورة.
سلك أسامة طريق (الزرندة), متجها الى نهرالحبيس وواديه العميق, قافزا بين الصخور الجلاميد. والشجيرات الحراجية الشائكة, باتجاه الحفة, وهو الدرب ذاته, الذي سلكه جده ورفاقه منذ ما يزيد عن الثمانين سنة, ماضيا نحو ذات الهدف, ليقاتل نفس الأعداء, ركض الشاب حاملا بندقية الصيد, فرحا بالطلقات الخمس التي حصل عليها, بعد اجتياز النهر وصل الى الاسفلت, حيث استوقفه شاب من أبناء القرية اسمع عبد القادر, كان يقف في مدخل القرية حارسا, سأله عن وجهته, فأجاب بأنه ذاهب للمعركة, فسارع عبد القادر الى مبادلته بندقية الصيد ببندقية آلية, تصلح للمعركة, بينما تكفي بندقية الصيد من أجل الحراسة, تابع أسامة الركض الى أن التقى بمصطفى, أردفه على دراجته النارية الى مشارف أرض المعركة.
الرجال هناك كانو يخططون لاقتحام الطريق الاسفلتي تحت وابل الرصاص ليدخلوا المشفى, لم ينتظر أسامة إشارة القائد, بل انطلق مدفوعا بحماسه فأصيب بطلق ناري في ساقه رماه أرضا وأعجزه عن المتابعة, صاح به رفاقه أن ازحف رجوعا, زحف حتى تجاوز الاسفلت, كان الرصاص المنهمر يتساقط حوله فيحدث حفرا عميقة في الأرض, خلع حذاءه لينظر الى رجله, خالها قد قطعت وانتهى أمرها, ما تزال عالقة بعض الشيء, أراد الاجهاز عليها بسكين في جيبه, لكن رفاقه منعوه , حملوه وركضوا به, وهناك رن هاتفه, كان المتصل أخاه يتكلم من مدينة اللاذقية, سأله عن حاله, فأجاب أنه بخير, لكن المطر غزير, في اشارة الى الرصاص.
عند أول منزل توقفوا, قرعوا الباب بعنف فانفتح, دخلوا فناء الدار, أطل صاحب البيت وزوجته من الباب يستطلعان الخبر, حين شاهدت الزوجة شابا محمولا على أذرع رفاقه وثيابهم الناضحة بالدم أغمي عليها, حملها زوجها الى الداخل وعاد الى الشباب, تفحص الساق المصابة بصمت, أحضر بعض المناشف, وصندوقا خشبيا من النوع المعد لتعبئة الخضار, حطمه واستخرج منه بعض الخشبات الصالحة, صنع منها جبيرة بدائية, عالج بها ساق الشاب وأمرهم بالاسراع به الى أقرب مستشفى ميداني.
أسامة يشعر بالظمأ, طلب منهم الماء, قال الرجل صاحب البيت الماء يضرك الآن لأنك نازف, لكنه أصر, وراح يرجوهم واحدا إثر واحد, أحضر له صاحب البيت كوبا ونصحه بألا يكثر من الشرب, شرب نصفه, ثم غامت الرؤيا أمام عينيه وغاب عن الوعي.
صحا في منزل من منازل الجنكيل, اتخذه الشباب مستشفى ميدانيا, جهزوه ببعض الأدوية والأدوات الاسعافية, فتح عينيه, رأى نزارا يمسح له وجهه بفوطة مبللة, ابتسم له رامي مهنئا بالسلامة, وأعطاه حقنة في العضل, غاب بعدها عن الوعي مرة أخرى, وما شعر بأنهم حملوه الى سيارة مع عدد من الجرحى وسافروا به الى تركيا, ضاع هاتفه الجوال بين نوبات صحوه وإغمائه, وانقطعت صلاته بأمه.
دخلت النساء الى خيامهن, وظلت أم حسن في ذهولها, تبكي تارة وتجأر بالدعاء تارات, طالبة من الله نصرا قريبا, وسلامة لأبنائها وكل رفاقهم من المجاهدين, الخارجين بأرواحهم, وبقليل من العتاد, يواجهون قدرهم طالبين عيشة انسانية تحفظ فيها كرامتهم وحريتهم, أو ميتة يرتقون بها الى ربهم شهداء بعدما قدموا ما في وسعهم.
فتحت أم حليمة حقيبتها, فردت محتوياتها لتتفقد ما جلبته وما يمكن أن تحتاجه في هذا المنفى, وجدت أنها تحتاج الكثير, تحتاج لولديها ثيابا تناسب هذا الجو الصحراوي, برد في الليل وقيظ في النهار, تحتاج أحذية لها ولهما, تستطيع مقاومة هذا الحصى المسنن الحواف, الذي فرشت به أرض المخيم, تحتاج التواصل مع العالم الخارجي, لن تستسلم للسجن هنا, لابد من وسيلة.
في الأصيل, حين خفت قليلا حدة الحر, أخذت ولديها وذهبت الى الادارة, اكتشفت أنهم جهزوا مسبقا صالة للأنترنت, كما جهزوا روضة للأطفال, هذا اكتشاف عظيم, ستتواصل مع كثير من الناس, وربما تستطيع الوصول الى زوجها, وأهل قريتها, ولكن لا بد من إكمال الحديث مع الاستاذ سعيد لتعلم منه الى أين تسير الأمور, بدأت بكتابة منشور صغير تعلن فيه أنها صارت لاجئة تعيش في خيمة, ثم دخلت نافذة البحث عن أصدقاء فأرسلت عشرات طلبات الصداقة الى كل من ينتمي للحفة وقراها.
- كم من السنوات تحتاج هذه العداوة التي أشعلوها بين الطوائف لتنطفئ جذوتها من قلوب الناس؟
- العداوة؟ الثأر؟ الانتقام؟ يجب أن نكون نحن صمام الأمان بعد سقوط النظام, أرى أن الحكاية لن تطول, المهم أن نعود الى قرانا ومساكننا, نبني بلدا لكل الناس, ونفهمهم أن بشار الأسد وأباه وحاشيتهما, كانوا يتخذون البلاد مزرعة لهم, ولآل مخلوف وشاليش ويعتبرون الناس عبيدا.
- نحن كنا نفهم ونرى هذا الأمر بوضوح, ونرى حولنا عددا هائلا من العلويين المدقعي الفقر, الذين لم ينالوا من حكم الأسد طينا ولا طحينا, وأنهم كانوا فلاحين في قرى يملكها علويون مثلهم, ما كان الملاك العلوي أرحم بفلاحيه من المالك السني, لكن النظام حول الأمور الى حقد طائفي منذ بداية حكم الأب.
- يا سيدتي يجب أن يعلم الجميع أن أركان دولة الظلم ينتمون الى كل مكونات الشعب, وليسوا من الطائفة العلوية , خذي مثلا: رستم غزالي وخالد العبود وأغلبية أعضاء مجلس الشعب والوزراء هم من السنة, وكلهم يصفقون الآن لقتلنا ويباركونه, يشربون دمنا, وأن العلويون لم يحصلوا من هذا النظام سوى تشغيلهم كعبيد لدى أفراد الأسرة الحاكمة.
- لا يا أستاذ سعيد, أنت تعلم أن من تتحدث عنهم من السنة, هم أبعد ما يكون عن الفرائض والسنن, لبسوا قمصان العلمانية فما كانوا علمانيين الا في عداوتهم لأهلهم, أنت واثق كما أنا واثقة, أنهم ليسوا بأصحاب قرار في دولتهم,, كلهم لا يملكون قرار تعيين موظف, بل مستخدم, ولا فتح شارع في مدنهم, هم ديكورات تكمل المسرح فقط, انظر اليهم واحدا إثر واحد, كلهم أضروا بأهلهم وقراهم أكثر مما نفعوا, كل مكاسبهم تصب في خانة مصالح آل الأسد, وما كانوا سوى كلاب صيد لا أكثر, وكلنا يعلم أن كناسا علويا في أية وزارة, يملك من المبادرة أكثر من الوزير, وأن أي عنصر في فرع من فروع المخابرات يستطيع إهانة عضو مجلس الشعب, بل الوزير وسحله أمام الناس, في تمهيد لاقتياده الى زنزانة في فرع الأمن, وليست حكاية محمود الزعبي عنا ببعيدة.
انتهت المحادثة الأولى عند هذا الكلام, شعرت أم حليمة بالغثيان, تركته وانتقلت للحديث مع أحلام, هذه الشابة التي اشتركت في أولى المظاهرات مؤازرة خطيبها, كانت خطبتهما مثار إعجاب وحديث كل الجوار, كانا يجولان في الشوارع أثناء المظاهرات كطيور الحب, عقد قرانهما وتأجل موعد العرس حتى نهاية الثورة, كانت أحلام تحلق بحلم فراشة, ممسكة يد أحمد, تستمد منه الفرح والحب والأمان, تدفعه للمزيد من الإقدام والتفاني في الثورة, وحين ينتصف النهار تعود لبيت أهلها, تحضر عشرات اللفائف من الطعام, وتخرج لتقف بها على ناصية الشارع, تناولها للمتظاهرين واحدا إثر واحد, وتخص أحمد بأكثر اللفافات أناقة وعناية, لم يطل بها الحال أكثر من اسبوع, اذ كانت في مطبخها تحضر الزاد للمتظاهرين حين دخلت مجموعة من الشباب المتظاهرين باب منزلها المفتوح, حاملين جثة أحمد بعد إصابته برصاص قوات (الأمن).
- مساء الخير يا أحلام
- وهل بقي خير في مساءاتنا؟
- نعم...سيبقى الخير في الدنيا ما دامت الشمس تطلع من الشرق
- لا أرى خيرا من حولنا, بعد بيتنا الواسع في الحفة وغرفتي الخاصة, انظري حالنا, ثلاث أسر محشورة في غرفتين, الأطفال لا يكاد يسكت بكاؤهم حتى تنطلق ضحكاتهم, أو شجارهم, طوال الوقت نحن نشتغل بالطبخ والغسيل وترتيب ما عبثوا به, لا ينفع معهم عقاب ولا مكافأة, غسيلنا يدوي, طعامنا نجهزه ليوم واحد, الكهرباء مقطوعة معظم ساعات اليوم, والماء كذلك, نشتغل طوال الوقت ولا يثمر عملنا عن نتيجة.
- هل تعرفين مصير أهلي؟
- نحن لا نخرج من البيوت الا في حالات نادرة, نشتري حاجات البيت من أقرب دكان ونعود خشية الاصابة برصاص طائش أو الاعتقال.
- وأنت؟ ما هي أحوالك؟
- بعد وفاة أحمد ما عدت أشعر بطعم الحياة, بل أحس أحيانا بالحاجة للجنون, أخرج من البيت وحدي, أمشي في الشوارع بلا هدف, أمشي حتى يهدني التعب فأختار زاوية أو مكان عند موقف باص لأبكي حتى تهدأ روحي, ثم أعود للبيت.
- كيف تبكين في الشوارع؟ ألا تخشين تأويلات الناس؟
- ما عاد هذا الأمر يهم أحدا, تعالي الى شوارعنا لتري ما أكثر البواكي
- هل تعرفين مصير نجاح وخالتها عفاف؟
- هؤلاء يسكنون في حارة متاخمة لبيوت العلويين, زرتها مرة فوجدت تحت شرفة بيتها بازار السنة
- ما هو بازار السنة؟؟
- هو سوق شعبي يقام في أحياء العلويين تباع فيه المنهوبات من بيوت أهل السنة, هل تعلمين ما الذي وجدته في ذاك البازار؟ وجدت الصندوق الخشبي المطعم بالصدف, والذي أهداه لي أحمد ليلة خطوبتي, لأحتفظ فيه بمصاغي, وقد نقش على غطائه اسمينا وتاريخ خطوبتنا, اشتريته ورجعت به الى البيت, كان ذلك المشهد عندي يعادل في قسوته دخول جثة أحمد الى بيت أبي, تصوري, بعد كل هذا مازال بعض البلهاء من أهل بلدنا يخافون من الحديث في الطائفية, يمرون بسوق السنة, يشاهدون أثاث بيوتنا وثيابنا وأدواتنا تباع بأرخص الأثمان, بطريقة مهينة, ويقولون إياكم والطائفية, هل بعد هذا طائفية؟
تركت غرفة الحاسوب تغالب الصداع, وتغالب هبوطا في ضغط الدم يكاد يجرفها الى شواطئ الإغماء, وقامت تتفقد ولديها, كانت حليمة نائمة في الأرجوحة المتوقفة, مائلة العنق, بينما حمزة يناغي وحده في سرير الحضانة, أيقظت حليمة, دفعتها لتمشي أمامها, وحملت الصبي بين ذراعيها, أخذتهما وخرجت الى الدرب المحجر, استقبلتها نسمة هواء حارة وكأنها تقف على باب الفرن, بعد خروجها من الغرفة المكيفة, وعادت لخيمتها تنتظر عربة الطعام لتأتيها بوجبة العشاء.
الخيمة ما تزال تصطلي بحرارة الشمس, وكأنها حمام بخاري مغلق, شرعت أبوابها, أوصت حليمة بالاعتناء بأخيها, و بألا تخرج من الخيمة مهما كانت الأسباب, ثم حملت القدور الفارغة واصطفت مع بقية النساء في طابور المذلة بانتظار ما يتصدق به عليهن من طعام, على حاشية الشارع الفاصل بين الخيام, كانت معظم النساء غارقات في بحر الدموع والصمت, تخفي وجهها أو نصف وجهها, تداري هوانها, لكن الجوع لا يعترف بهذه العبرات, وكذلك بكاء الأطفال, لذلك وقفن على هوامش الدرب منتظرات يغالبن شعورا فظيعا بالخزي والهوان.
أخذت أم حليمة حصتها من الطعام وعادت لخيمتها, وجدت ابنتها في غاية الهلع, تحاول السيطرة على بكاء أخيها بلا جدوى, تشاركه بكاءه, حين وقفت في باب الخيمة ركضت اليها حليمة, عانقتها بقوة, راجية إياها من بين الدموع ألا تتركها وأخاها أبدا, وألا تموت في الغربة مثلما ماتت أم نوري في المهاجرة القديمة, بسملت المرأة وحوقلت, متسائلة في نفسها عن وسيلة تستطيع بها إخراج ابنتها من قميص الجدة أم علي, ولكن كيف تقنعها والأحداث تتكرر أمام ناظريها بالتفاصيل ذاتها, بأسماء الأحفاد الذين ورثوا من الأجداد شقاءهم وقهرهم, وأسماءهم أيضا؟
أم نوري كانت حاملا في شهورها الأولى, رافقت موكب الهجرة مع ابنتين لها, كانت تمشي في نهاية القافلة, متعبة مرهقة, جلست لترتاح في ظل شجرة, وجلست ابنتاها بجانبها, أظلم عليهن الليل, نامت ابنتاها في حضنها تطلبان الأمان, خائفات من الظلام, خائفات من حكايات سمعتاها عن ضباع تأكل أجساد الناس وهم أحياء, عن جنيات تخرج في الظلمة لتخطف الأطفال من أحضان أمهاتهم, لكنهما استيقظتا في الفجر, ولم تستيقظ أمهما, حاولتا إيقاظها فلم تستجب لهما, ظلتا في محاولاتهما تبكيان وترجوانها الى ما بعد شروق الشمس, تركتاها ومشتا على الدرب حتى وصلتا الى أقرب قرية, أخبرتا أهلها فسارع من تبقى من الرجال الى المكان الذي حددته الطفلتان, جاؤوا بجثة المرأة الميتة, وتطوع أحد الفرسان فأردف الطفلتين على حصانه, وجرى ليلحقهما بالقافلة التي ضلتا عنها, بنات هاتين الطفلتين كانت تزور الجدة أم علي, فتجلس معهن, تتذاكر وإياهن حكايات الأمهات والجدات, وتخزن ذاكرة الطفلة حليمة كل الحكايات.
ضمت أم حليمة ولديها الى حضنها, وحين توقف البكاء , أنزلت ستائر خيمتها وأغلقت أبوابها اتقاء برد الليل, بدأت بإعداد الطعام, وراحت ترد خلال عملها على أسئلة طفلتها وتناغي طفلها, ثم أسلمتهما للنوم بعد نهار حار مرهق, مضى كأطول وأضيع نهار عرفته تلك المرأة في حياتها, لم تعرف خلاله بأي شيء يجب عليها أن تفكر؟ بزوجها الذي لا تعرف عن مكانه وأخباره شيئا؟ ببلدها المسروق منذ خمسة عقود من السنين؟ بالثورة التي تحاول استعادة ما سرق ونهب؟ بغربتها وضياعها مع ولديها؟
ارتفع أذان المغرب من مسجد المخيم, فقامت تتوضأ من جردل ملأته ماء ووضعته داخل الخيمة, ما عادت تجرؤ على مغادرة ابنتها وتركها لتلاطم الأفكار والتيه بين واقعها وحكايات جدتها, أدت صلاتها واستلقت على فراشها تقاوم شعورا بالاختناق ضمن مساحة الخيمة وراحت تراجع أحداث ذلك النهار الصاخب.
قبل أن تقدم لابنتها طعام العشاء أخذتها الى الحمام, لتغسلها من غبار النهار, خلعت عنها ثيابها فلاحظت ازدحام البثور على كامل ساقيها, لا شك أنها آثار الأشواك التي شاكتها في رحلتها بين الشجيرات الحراجية, توقعت ليلة موشاة بالأرق, سترتفع حرارة الطفلة جراء الالتهاب المزنر لمواقع الأشواك, والمحيط بكل بثرة من البثور إحاطة كاملة, دلكتها بالصابون, ثم نشفتها بشكل جيد, وفي الخيمة فرطت واحدة من كبسولات المضادة للالتهاب أذابتها في نصف كوب من الماء ورطبت به ساقي ابنتها, ثم قدمت لها عشاءها وأضجعتها على الفراش الاسفنجي تمهيدا للنوم.
نمط جديد من الحياة يجب على الجميع تقبله, بل الاعتياد عليه هنا, لا ثياب مخصصة للنوم, الكل ينام بثياب النهار التي لا بديل لها, والكل يأكل من طعام واحد, تأتي به مطبوخا العربات المخصصة له, مجلوبا من مطابخ كبيرة خصصت لهذا الشأن, والكل ينام باكرا, اذ لا تلفزيون ولا سهرات ولا أحاديث تملأ الوقت, الجميع ذاهل يفكر بما كان وما صار وما سيؤول اليه الأمر, أغلقت الخيام على سكانها وأطفئت أونوارها, فخلت الشوارع من الحركة, الكل مشغول بأمر أهله, عائلات تشتتت وتوزع أفرادها بين مخيمات الداخل السوري ومخيمات دول الجوار, الكل يفكر بأحبة استشهدوا أو اعتقلوا أو مازالوا صامدين في ساحات القتال, الحفة وكل القرى السنية المحيطة بها تحولت الى ثكنة عسكرية كبيرة, قرية دفيل سويت بالأرض, لم يبق فيها بيت قائم, بكاس هدم معظمها, وبقية القرى هدم منها ما هدم ونهبت البيوت القائمة بذريعة أنها مال الارهابيين, لا وقت لشيء سوى الذهول.
بعد صلاة العشاء عادت أم حليمة الى مضجعها بجانب ولديها, وقبل أن يلامس الكرى جفنيها المثقلين بمتاعب النهار بدأت حليمة بالأنين, متألمة من أوجاع ساقيها الملتهبتين, جست الأم جبينها فوجدت حرارتها مرتفعة, الى أين تذهب بها في هذا الليل الموحش؟ فتحت باب خيمتها وألقت نظرة على الفراغ, سكون مخيف لا يقطعه سوى خفقات الخيام تهتز بفعل الرياح, كل أنوار الخيام من حولها مطفأة, من توقظ ليرافقها الى المستوصف؟ عند من ستترك ابنها حمزة؟ ليت خيمة أم حسن قريبة منها, لكنهم وضعوها في حي آخر يفصلها عنه سور من الشبك المعدني والأسلاك الشائكة, جيرانها من محافظات أخرى, بعضهم جاء من ادلب وريف حلب, بعضهم من حمص وريف حماه, ومن جبل الأكراد, لم تسألهم بعد عن أحوالهم, فلكل مهاجر شأن يغنيه, حوقلت وسبحت وعادت لخيمتها, تعالج ابنتها بكمادات الماء البارد, وترش البودرة فوق بثور ساقيها الى أن نامت الطفلة على قلق.
وقع خطوات ثقيلة كان يطوف بخيمتها, زرع في قلبها رعبا, من هؤلاء الساهرين في هذا الليل البهيم؟ لماذا يطوفون بخيمتها؟ ما الذي يريدونه منها؟ أهم من اللاجئين وقد منعت ذكريات الأمس النوم عن عيونهم؟ أم هم لصوص يتربصون بها وبخيمتها؟ ليس لديها ما يثير المطامع فأي شيء يسرقون؟ كل ما لديها فراش من الإسفنج وبعض الأواني, ربما يكونون من الشبيحة, قصدهم الانتقام من زوجها بإيذائها وقتل ولديها, دب الرعب في قلبها فانطلق خيالها ليرسم لها جرائم وأحقادا تعلمها جيدا مثلما يعلمها كل سكان بلدها, بعضها جرى في حياة الجدة أم علي وبعضها شاهدته بأم عينيها, أو سمعته يروى على ألسنة من شهدوها, قبل نزوحهم, أطفأت نور خيمتها, وجلست قرب ابنتها تراقب أنفاسها, وتستعد لأي شكل من أشكال المفاجأة.
تجاوز الليل منتصفه بقليل, عاودت الطفلة الأنين, راحت الأم تلاطفها بناعم الكلام وسخي الوعود, تمسح رأسها وجبينها, تدلك ساقيها, تبدل لها كماداتها, واشتد وقع الخطى أمام خيمتها ذهابا وإيابا, زاد معه رعبها, زاد خوفها على طفليها, اندست بينهما, احتضنت كل منهما بإحدى ذراعيها واستسلمت للصمت.
كان النوم ثعلبا مراوغا في تلك الليلة, تطرده بعصا الخوف, تخرجه من أبواب الحذر, يتسلل إليها من نوافذ التعب والإرهاق, يغزو عينيها بلحظة, يأخذها الى أحلام ترى فيها نفسها محاصرة بالانفجارات, أو راكضة بين أطلال قرى مهدمة, فتصحو محوقلة , تردد بعض الأدعية وتعود للنوم من جديد, يوقظها أنين ابنتها, فتهدئها وتمسح على جبينها, تبدل لها كمادات الماء البارد وتعود للسباحة في بحر أفكارها المتلاطم الأمواج, بلدها الآن بركان نشط, تغلي فيه الحمم وتحجبه عن الحقيقة سحب بركانية ثقيلة تتمثل في المصالح الدولية والاقليمية في المنطقة, ويتناثر الشعب كالرماد, بين نازح ولاجئ وقتيل ومعتقل, وهي هنا, تحيط بخيمتها خيام لا تعرف أحدا من سكانها ولا يعرفها أحد, يفصلها عن أم حسن وأسرتها رتلان من الخيام, في كل خيمة منها عشرات الحكايات, وأصناف ملونه من الفقد والثكل والشقاء, وارتفع صوت أذان الفجر معلنا نهاية ليلها الموشى بالوجع والأرق.
في منتصف الأذان استسلمت للنوم, كان نوما ثقيلا طويلا, صحت منه على بكاء ابنها, وقد اكتفى من النوم وحان الوقت لتبديل ملابسه وإطعامه, كانت أشعة الشمس تسطع بقوة مخترقة نسيج الخيمة الرقيق, لتجعل فضاءها شبيها بجوف تنور, تعوذت بالله من الشيطان الرجيم, تركت ابنتها تواصل النوم وأخذت الصبي الى الحمام, غسلته وبدلت ملابسه, ثم توضأت وعادت لتجد حليمة, تنام منبطحة على بطنها, غامرة وجهها بيديها, تبكي بكاء مرا, , بكاء مشبعا بالخوف والقهر, حين وطئت الأم عتبة الخيمة ارتفع نشيج البنية حتى كادت تختنق, وضعت الصبي بجانب أخته بصمت, وراحت تحضر له زجاجة الحليب, وتحضر في ذهنها أعذارا, وكلاما تقنع به ابنتها, وتساعدها على تخطي الأزمة والاعتياد على نمط الحياة الجديدة في الخيام, سلمت الطفل رضاعته وراحت تقضي صلاة الفجر الفائتة.
نادى المنادي على سكان الحي للخروج من الخيام واستلام وجبة الفطور, تصنعت أم حليمة الغفلة عن بكاء ابنتها, وطلبت منها مساعدتها في جلب الوجبة الى داخل الخيمة, حملت قدرا وحملت ابنتها قدرا أخرى, تركتا الصبي يلهو برضاعته وخرجتا للوقوف في الطابور مع الواقفين والواقفات, استلمتا حصتهما وعادتا الى الخيمة, كانت الأم تحدث ابنتها, وتشرح لها حسنات هذه الأنواع من الطعام, لتنسيها قهرها وخوفها, طلبت منها مساعدتها في تجهيز المائدة, وزعتا الجبن واللبن والمربى في أطباق معدنية, وجلستا تتناولان الطعام, وهما تتبادلان حديثا يمور بين المرح والأمل والذكريات, استطاعت به المرأة انتزاع ضحكة صافية من قلب ابنتها فحمدت ربها وقامت تغسل الأطباق في المغاسل العامة تساعدها ابنتها, التي زرعت في روعها بأنها صارت كبيرة, ويجب عليها المشاركة في كل العمل, لتشغلها عن أحزانها.
غربان الحزن التي باتت ليلتها في هذه الخيمة, فرت هاربة من فراشات ملونة انطلقت مع ضحكات حليمة, وتناثرت داخل الخيمة وخارجها, مما جعل بنات الجيران تتزاحم على باب الخيمة بوجوه أرهقها القهر وورّدتها ضحكات حليمة, فجئن ليشاركنها الفرح, رحبت بهن أم حليمة, وراحت تدير بينهن مسابقات وألغاز, تنتهي كلها بضحكات تزهر في بلقع المخيم, فيخشع القيظ, ويعترف أن حياة من نوع جديد قد بدأت هنا, يشتد أوار الشمس فيسيل العرق على جباه البنات, تقترح أم حليمة مغادرة الخيمة واللجوء الى خيمة أكبر, افتتحتها ادارة المخيم هنا لتكون استراحة, يمضي فيها اللاجئون فترة اشتداد الحر, مجهزة بمكيف صحراوي وجهاز تلفزيون.
الخيمة العامة واسعة, أرضها مفروشة بالحصى, فوق الحصى بساط رقيق من اللباد المصنوع من أقمشة قطنية مندوفة, جهاز التحكم بالتلفاز ثابت في يد امرأة مسنة, تركض بين محطات الأخبار بحثا عن أي جديد, عن أي خبر يثلج القلوب ويذكي الأمل في النفوس, ليس الا الموت والنزوح, القوى العالمية واقفة تراقب المشهد عن بعد, ولا تحرك ساكنا, تترك الفخار السوري يكسر بعضه بعضا, تتوقف حينا عند محطة تعرض صور الشهداء فتجهش النساء بالبكاء, تقلب المحطة الى أخرى تعرض صور المظاهرات فتلهج القلوب بالدعاء, ويترك الأطفال ألعابهم ليشتركوا في المظاهرات عن بعد, يرددون الأغاني والأناشيد ويهتفون للجيش الحر.
أم حليمة تعرف أن هذا كله إعلام, وهو ينطق بصوت مموليه وراسمي خططه, يتظاهر بالحياد, أو بتأييد فئة بينما يوجه دعمه للفئة الأخرى, الحقيقة هناك, في الداخل, على أرض المعارك والمظاهرات, لا بد من اتصال الى هناك, ولكن كيف؟ الامر بسيط, ما عليها سوى الذهاب إلى الإدارة, حيث تعرض ابنتها على طبيب المستوصف, وتدخل بعد ذلك قاعة الانترنت.
- أستاذ سعيد كيف ترى حكاية مناف طلاس؟ هل تراها لعبة تبادل الكراسي؟
- اذا كان مناف طلاس أو أي شخص آخر سيشكل عنوانا لمرحة انتقالية يسقط فيها بشار, ويقام مجلس تأسيسي ودستور جديد قريب من دستور الخمسينات, تعقبه انتخابات شريفة ونزيهة لبرلمان ورئيس دولة بمراقبة دولية فأهلا به, وعلى غير هذا؟؟ ليبلطوا البحر, أي حل للقضية السورية يمثل مزيجا من الحالتين اليمنية والمصرية سيوفر على الأقل مئة ألف قتيل إضافي, طبعا بشرط عدم استخدام العنف والسماح بالتظاهر وإطلاق سراح المعتقلين, وتكوين حالة انتقالية لحين إعداد دستور بإشراف جمعية تأسيسية تشرف عليها المعارضة.
- الخشية أن يتمسك بالكرسي مثل من سبقوه, فيتغير شخص الرئيس ويبقى النظام
- صديقتي, اذا استطعنا اقتناص اية فرصة لترحيل النظام وتكوين انتصارات ولو صغيرة, يجب ألا نتردد, أما الثورة, فيجب ألا تنتهي الا بتكوين دولة المواطنة القادرة على الوقوف على قدميها, ويجب تحديد صلاحيات السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وايجاد سلطات قادرة على مراقبة السلطات, أحزاب حقيقية ليست تابعة لأية سلطة, بغير هذا ؟؟ نكون قد استبدلنا خازوقنا بخازوق آخر, أكبر منه وأدهى.
ما زالت بعض الأمور في معركة الحفة غائبة عن علمها, كتبت على محرك البحث( الحفة) فظهرت أمامها عشرات الصفحات, قرأت منها نثرات, وتوقفت عند صفحة تتحدث عن المعركة الأولى في مخفر الشرطة بقرية كنسبّا, علق عليها أحد الشبان, مستخدما اسما مستعارا, ينوح في بداية التعليق ويبكي ساخرا(اهئ..إهئ,,إهئ..مات عناصر الشرطة؟؟ لمن سندفع الرشوة بعد اليوم؟ لمن سندفع ضريبة وجودنا في هذه الأرض؟ واذا تم توقيفنا في نظارة المخفر عقابا على عملنا بقطع الحطب, من حينها سيبيعنا السيكارة الواحدة من أردأ أنواع التبغ المحلي بقيمة خمسمائة ليرة؟ اذا ماتت الشرطة من سيسرقنا؟ من سينهبنا؟ من سيذلنا؟ أهئ...أهئ...أهئ......ضحكت بمرارة, نعم هذه مهمة رجال الشرطة أينما وجدت الشرطة, عادت تبحث بقلق عما يروي ظمأها لخبر عن أهلها وبلدها.
تنظر الى يسار الشاشة, الى لائحة أصدقاء الدردشة, فتجد اسم بهاء, هذا الفتى ما كانت تعيره بالا في أيام السلم, هو ابن لاحدى صديقاتها, لكنه الآن شخصية مهمة, مازال يتنقل سرا بين بيوت الحفة التي غادرها أهلها, يرقب بعين الاعلامي الماهر حركة الجيش ورجال المخابرات, ينقل الأخبار عبر جهاز حاسوب محمول, يحذر من تبقى من أفراد الجيش الحر من تحركات الجيش, وينذر الأهالي من خطر محدق بهم, ينقل الطعام والذخيرة من هنا لهناك.
- ما أخبار الحفة يا بهاء؟
- الحفة خلت من سكانها, ما بقي فيها سوى بعض العجائز, يطهين الطعام ويوزعنه سرا على الشباب, الحفة صارت معقلا للجنود بكل أشكالهم وجنسياتهم
- هل ترى حولك أحدا من أهلي؟
- نعم, خالتك أم وليد وابنتها, خالك مصطفى وزوجته
- أين ذهب الناس؟
- معظمهم أخذوا عائلاتهم واستأجروا لهم بيوتا في مدينة اللاذقية, ومنهم من اتجه الى جبل الأكراد واستوطن البيوت المهجورة هناك, أو أكمل طريق هجرته الى تركيا
- لا حول ولا قوة الا بالله, خوفي على العجائز من غدر الغادرين, في الهجرة الأخيرة قبل هذه جمع المحتلون العجائز في غرفة واحدة وأضرموا فيهم النار, حين عاد جدي الى قريته وجد في تلك الغرفة بقايا عظام متفحمة, ودهنا سال من أجسادهم في ساقية تمتد أمتارا على التراب
خرج بهاء من المحادثة, بلا انذار خرج, له عذره, بل أعذاره, ربما انقطع التيار الكهربائي, أو انقطع الاتصال, وربما....؟ ربما هوجم في مأمنه فصادر عناصر المخابرات جهازه المحمول وأدواته واقتادوه الى أقبية التعذيب, توقفت وراحت تدعو الله بحرارة الرجاء أن يحمي بهاء من أعينهم ومن إجرامهم, التفتت مرة أخرى الى لائحة الدردشة, ما زالت النقطة الخضراء تضيء بجانب اسم الاستاذ سعيد, عادت اليه مهاجمة:
- أين المعارضة العلوية؟ أين الشباب العلوي المثقف؟ نحن لا نجدها بين أوساط الجيش الحر , يجب أن تظهروا حقيقة مواقفكم قبل انتهاء الثورة وقبل سقوط النظام, لئلا نخرج من الثورة الى انتقام هو أسوأ أشكال الحرب الأهلية.
- المعارضة العلوية لا توجد ضمن تشكيل ديني أو مذهبي, هم موزعون ضمن قوى عديدة لكنهم لا يتكلمون باسم الطائفة, بل يتكلمون باسم الوطن أو بأسماء أحزابهم, منهم مع رياض الترك ومنهم مع رابطة العمل الشيوعي, وآخرون في المجلس الوطني.
- على كل حال هم قلة, يعدون على الأصابع, ليتهم يظهرون باسم الطائفة من أجل سحب خيط العداوة الطائفية قبل وقوع المحظور, لماذا يكره المعارضون العلويون – عدا وحيد صقر- التصريح بانتمائهم الطائفي؟
- لأن العقاب يكون عليهم وعلى أسرهم من قبل النظام أكبر, والمطلوب من الثورة ببساطة دولة مواطنة لا دولة محاصصة طائفية مثل لبنان أو العراق, في سوريا الآن طائفتان, طائفة الحرية, وطائفة الاستبداد, في كل منهما أناس ينتمون لمختلف المنابت الدينية والعرقية ولا نحب أن نخدم بشار الأسد بالاعلان أننا ذاهبون الى حرب طائفية.
- لكننا ذاهبون اليها فعلا, أنت تعلم أني حاولت تأجيل اشتعالها قبل خروجي من بيتي, لكن ابن الشيخ فضل غزال لم يستجب, أنت تعلم وكل من في سوريا يعلم ما تعنيه أسرة الشيخ فضل غزال بالنسبة للنظام, قال لي بأن لا نفوذ له على قرية بيت الشكوحي, وهو يعلم باني أعلم أنه يكذب, لكنه أشعل شرارة الطائفية عامدا.
- منذ أيام اعتقلت فتاة علوية اسمها كفاح علي ديب, هي شابة موهوبة, نالت جائزة الشارقة في قصص الأطفال, هم دائما يعتقلون الأفكار والمواهب, يريدون أغناما تمشي في القطيع, لا يريدون رؤوسا مرفوعة, لأنها تؤذي طغيانهم, لسوء الحظ وقع طلاب الحرية والكرامة بين أيدي (الشبيحة والذبّيحة) انظري حالتي, كنت شابا صغيرا حين زجوا بي السجن, هل كنت أشكل خطرا على سيادته؟ أم أني لست علويا مثله؟ الظلم والطغيان لا دين ولا طائفة لهما, وحين يبدأ الظالم بطغيانه يبدأ بأهل بيته, البعثيون تحولوا الى أدوات, والنظام ضم تحت إبطه كل الانتهازيين من الشيخ البوطي الى الشيخ فضل غزال, وخالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي, أحزاب الجبهة المفترض أنها معارضة, وكل من لم يسبح بحمده كان مصيره السجن أو المضايقة والمحاربة في لقمة العيش, وتسابق الكثيرون لإعلان الولاء عن غير قناعة, بل بالغوا بولائهم وراحوا يهتفون له, تصوري!! حتى السجناء في معتقلاتهم يجبرون على الهتاف بحياته, إنها إحدى المفارقات الفظيعة.
عادت للدق على وتر الطائفية, الأمر واضح لا يحتاج دليلا, كل شبان القرى العلوية المحيطة بالحفة انتظموا في قطعان الشبيحة وراحوا يعيثون نهبا وتقتيلا بأهل القرى السنية, وذلك الشيخ الذي رفض التدخل للإفراج عن ابن عمها زاد الطين بللا, في ظروف تتطلب منه العقلانية والوعي, كان رده رد يائس.
- نعم, إن لسلوك ابن الشيخ فضل غزال وأمثاله دور كبير في إشعال الفتنة الطائفية, ولا أخفيك أن كآبة حادة أصابتني بعدما فعلوا فعلهم بقريتكم وغيرها من القرى, وبعدما رأيت بعيني جثة تنهشها الكلاب في أحد شوارع دمشق, بعد قصف بالصواريخ على ذلك الشارع, وبعدما حدثني أحد أبناء عين ترما من ريف دمشق, بأن الكلاب الشاردة صارت كالضباع لكثرة ما أكلت من اللحوم البشرية.
- لكن مصير ابن عمي ميسرة ما زال مجهولا, بل أضافوا إليه أباه وأخاه وابن عم آخر لنا, هل يريدون تحويل سوريا كلها الى معتقل واحد؟ أما كانت منذ بداية حكمهم سجنا كبيرا؟
- آمل أن نتمكن من طي صفحة من أبشع الصفحات التي شهدتها بلادنا في تاريخها
- إنهم يقطعون أيدي وأرجل سوريا ويكممون فمها, بل يقتلونها بقدر ما يستطيعون, سيدفع الجيل القادم من أبنائنا ثمن حماقات ارتكبها المتوحشون, هؤلاء الأطفال الذين شاهدوا بأعينهم العنف في أقسى مظاهره, لن ينسوه, لا يمكنه نسيانه.
الأطفال...لن ينسوا, تذكرت أطفالها, غادرت كرسيها وراحت تتفقدهما, كانت حليمة كمثلها يوم أمس, نائمة في أرجوحتها, وحمزة يرفس بيديه ورجليه الهواء مناغيا في القاعة المكيفة, النهار يدنو من نهايته, والشمس تركع في جهة الغرب مودعة المخيم, معتذرة عما سببته أشعتها الحارة أثناء النهار لسكانه من الضيق, حملت الصبي على حضنها, وكيس الدواء بيدها, أيقظت ابنتها وسارعت في الطريق الى خيمتها, العمال الأتراك بلباسهم الموحد, المشابه لملابس الأطباء في غرف العمليات يدفعون عربات الطعام أمامهم منتشرين بين الأحياء يوزعون وجبة العشاء, أخذت حصتها, أودعتها خيمتها, واتجهت الى الحمامات العامة مع طفليها, وقفت تنظر دورها, واشتركت في حديث مع النساء هناك.
كل يوم يرفد المخيم بعائلات جديدة, نازحة من مدنها وقراها, كل العائلات قد تركت وراءها في ارض الوطن شهيدا أو أسيرا أو بيتا مقصوفا, أو أموال سرقت, الكل في المصيبة سواء, كانت واقفة تحمل ابنها, وتقف ابنتها قربها, ضاقت البنية من الزحام والانتظار, ضاقت من الشكوى, راحت تتقافز في مكانها, وتعبث بقدم أخيها مرددة أغنية الجدة أم علي:
لا تشكي لي أبكي لك
وعيوني مليانة دموع
أنت ولادك جوعانين؟
ولادي أنا ماتوا من الجوع
احتضنتها إحدى العجائز وقبلت رأسها, هذه الأغنية تعرفها كل عجائز جبل صهيون وجبل الأكراد, بكت العجوز لذكرى الأغنية التي كانت أمها تترنم بها في خلواتها, وبكت معها بعض النساء, أفسحن المجال لأم حليمة فغسلت ولديها وعادت لخيمتها.
فبل وصولها الى الباب بخطوات لاحظت أن بابها مفتوحا, تساءلت في نفسها ان كانت قد نسيت إغلاقه, لكنها متأكدة أنها أغلقته, تقدمت بخطوات وجلة, أدخلت ابنتها قبلها بخطوة ولحقت بها, فوجدت جارها وابن قريتها, الأستاذ طارق, واقفا يمشط شعره ولحيته بمشطها, أمام مرآتها التي ثبتتها على عمود الخيمة, طارق رجل خمسيني, يعمل معلما في المدرسة, أصيب بكتفه في معركة الحفة فجاء يمضي فترة نقاهته في المخيم مع أسرته, هو شخص محترم, لا يرتاب بسلوكه أحد, لا شك أنه أخطأ فدخل خيمتها يحسبها خيمته, فالخيام والأدوات والأثاث, نسخ متطابقة في كل الخيام, التفت اليها الرجل بدهشة فلم ترد إحراجه, بل بادرته بالترحيب
- أهلا وسهلا بك يا أستاذ
- بل أهلا بك أنت, ماذا تريدين؟ أجابها غاضبا مستنكرا
- أنت في خيمتي
- بل أنت في خيمتي, قالها بحدة وغضب
- ما رقم خيمتك؟
- واحد وتسعون
- خيمتي اثنان وتسعون, لا شك أنك أخطأت, انظر...رقم الخيمة مكتوب بالخط الأحمر العريض على واجهتها.
سقط المشط من يده على الأرض لشدة ذهوله, سارع بالاعتذار, وخرج يصارع خجله, هدّأت خاطره, وودعته بدعوات صالحات, راجية الله أن يخلص الجميع من هذه الخيام المقيتة, ويعيدهم الى بيوتهم بسلام وأمان.
كيف لامرأة مثلها أن تنام؟ بعد نوم ولديها أطفأت نور خيمتها واستلقت على فراشها, لتعيد التفكير في مجريات ذلك اليوم, في المستوصف التقت الشرطي الذي تحدث اليها في ليلتها الأولى بالمخيم, سألها عن حالها فشكت له مخاوفها من صوت خطوات ثقيلة تطوف بخيمتها ليلا, طمأنها بقوله : نحن استقبلناكم في بلادنا لأنكم مسلمون, اذا لم يكن أخي الشقيق مسلما فأنا أبرأ منه, ما تسمعينه في الليل هو صوت حراسنا, يطوفون بين الخيام لحفظ الأمان, نحن نسهر لتناموا, نتعب لترتاحوا, كوني في أمان وثقي بنا, واستعيني بالله ليفرج عنكم هذا البلاء العظيم.
كانت ترى في عينيه الصدق, وفي قسماته لهفة حقيقية وتعاطفا لا ريب فيه, بعد ذلك ما عاد يخيفها وقع الخطى الثقيلة حول خيمتها, لكنها عاتبت نفسها اذ أخذها الحديث مع الأستاذ سعيد على النت فشغلها عن البحث في مواقع الأخبار, ما أصدق أقواله, لكن مكوثه آمنا في دمشق وهي مشردة في بلاد غريبة اللسان, في بيئة صحراوية بعيدة عن جو الساحل الدائم الاخضرار والاعتدال, يثير حفيظتها, لا شك أنه محمي بانتمائه الطائفي, برغم ما قاله لها منذ مدة ليست بالقصيرة.
- ما الذي يريده هؤلاء؟
- هم لا يريدون لشعبنا أن يفهم معنى الكرامة, لأنهم يقدسون الحذاء العسكري, أما رأيت كيف يقيمون له التماثيل؟ هم يريدون قطيعا يطيع ولا يناقش, ونحن نريد بلادا تكون لنا وطنا, لا نريد مزرعة نعيش فيها عبيدا.
في أي ميزان يوزن هذا الكلام؟ من يبيعه ومن يشتريه؟ سعيد هذا فرد, يصرخ بصوت مكتوم, خشية أن يسمعه أحد فتكون عقوبة أكبر من عقوبة أي شخص من خارج الطائفة, هو صوت العقل, الذي كتمته أصوات الرصاص والصواريخ, تركت محادثة سعيد وراحت تبحث في قائمة الأصدقاء على صفحة فيسبوك, لقد أضافت لقائمتها العشرات, بل المئات, ممن تعرف ومن لا تعرف من أهل الحفة, لعلها تجد عند أحدهم خبرا يثلج فؤادها.
المخيم يضم خمسة آلاف خيمة, خمسة آلاف أسرة, لكل أسرة منها ألف حكاية, تلفتت أم حليمة حولها فوجدت نفسها منفصلة عن واقعهم, غارقة في بحار الفيسبوك, بينما استطاعت ابنتها الصغيرة إيجاد فريق من الصديقات, تلعب معهن, تقص عليهن الحكايات, وتستمع لحكاياتهن, الخيام في الأرض القاحلة تغير شكلها, بعدما عمد السكان الى زرع محيطها بالخضار والزهور, بعض الخيام اكتست بخضرة اليقطين بشكل كامل, وتنورت حولها زهيرات الباذنجان والكوسا والبندورة, وانشغلت النساء بما هو أهم من الثرثرة واجترار الماضي والتأسف على بيوت هدمت أو نهبت, الحياة مستمرة بشكل قوي, شعب لا يمكن قهره, فهنا عرس وهناك حالة ولادة, عافت قاعة الانترنت, ما عادت ترتادها الا لماما, انشغلت بما انشغل الناس به من حولها, عزقت الأرض حول خيمتها واستعارت بعض البذور والفسائل من جيرانها, وساعدتها ابنتها في تحويل محيط الخيمة الى بستان.
رسالة عالقة في بريدها بالفيسبوك انتبهت اليها بعد أيام من الغياب, أرسلها هشام, وهو أحد رجال الحفة, الساكنين في السعودية, يرجوها مساعدة أخيه الذي أصيب أثناء المعارك فتحطم فكه السفلي بالكامل, هو راقد في إحدى مستشفيات إنطاكيا, وحيدا بلا مرافق ولا معين, يحتاج نقودا لشراء الأدوية, يحتاج ملابس, وهو لا يستطيع إرسال المال لأخيه لأن الجريح خرج من ساحة المعركة لا يحمل جواز سفر, ولا يستطيع الكلام, لكنه يستطيع التواصل عبر الانترنت, كتب لها عنوان أخيه.
بسرعة البرق ردت على رسالة هشام ودخلت على صفحة الجريح, أرسلت له طلب صداقة ورسالة تخبره فيها أنها من طرف أخيه هشام, سألته عمن يعرفهم من جرحى الحفة, سألته عن زوجها, فأجابها بأنه التقى مع أسامة, ومصطفى وعبد الستار, وأن يحيى مكث بينهم أياما قليلة ثم عاد الى الجبهة بعدما انتزعت الشظايا من جسده, وأنه ما زال يتواصل معه عبر الهاتف,الأمر ما عاد يحتمل التأجيل, أخذت ولديها وطارت لتزف البشرى الى أم حسن.
في الصباح, سلمت خيمتها لإدارة المخيم, كما فعلت أم حسن, وزعت ثيابها وثياب أولادها وما اقتنته من أشياء على جيرانها, ودعت الجميع وركبت الحافلة مع أم حسن وأسرتها متجهة الى انطاكيا, وقبل ركوبها, اشترت بطاقة هاتف
- ألو ..يحيى
- أما زلتم أحياء؟ الحمد لله...أين أنتم؟
- نحن في الطريق الى انطاكيا, أين أنت؟
- انا بانتظاركم, لا تيأسي يا أم حليمة, سننتصر ما دامت قلوبنا مع الله
غلبتها عبراتها فلم تستطع اكمال محادثتها, أعطت الهاتف لابنتها
- بابا...اشتقت لك...لقد كبرت يا بابا...وصرت أساعد أمي في أعمال البيت, وألاعب أخي, زرعنا وردا حول خيمتنا يا بابا, الله محيي الجيش الحر, أبي هل سنعود الى قريتنا؟ هل قتل علي بدور؟ هل جلت فرنسا عن بلادنا؟ هل ستبني لنا بيتا جديدا كما فعل والد جدتي أم علي؟؟
وكمثل زوجته, خنقته العبرة فأغلق الهاتف, وظلت الحافلة تسير بالأسرتين من أمل الى أمل....والأطفال يهتفون فرحين: ياجيش الحر الله يحميك