جميعنا يعلم ان من مواصفات مقدمي البرامج التلفزيونية الحوارية الخلافية ، هي الحياد بين طرفي الخلاف ، لأن مبدأ الحوار يقوم على ضرورة ابراز الرأي والرأي الآخر ، وان يكون دور المقدم هو المساعدة في ابراز هذه الآراء ، اما ان ينحاز لطرف ضد آخر ، فهذا لا يتوافق ابدا مع حرية الرأي ، خاصة ان كانت المحطة تتشدق دوما ، بانها منبر الرأي والرأي الآخر ، او منبر من لا منبر له .
في البرامج الحوارية الخلافية ، يستطيع الطرف الذي ينحاز مقدم البرنامج ضده ان يعبر عن جزء من رأيه ، او يعرف من قبل المشاهدين كمعارض ، او ان ينسحب ، اذا تمادى مقدم البرنامج في انحيازه ، وهذا الانسحاب هو موقف يسجل له ، وقد يكسب من خلاله تعاطف المشاهدين ، خصوصا ان كان البرنامج يبث على الهواء مباشرة ، اما البرامج الاخطر ، فهي التي ينقل فيها رأي احادي فقط ، وتبرمج المحطة ومقدم البرنامج ، للاساءة الى الرأي الاخر دون اعطائه حق الدفاع عن النفس ، او ابداء وجهة نظره ، لأنه غير موجود اصلا ، وكان يفترض والحال هكذا ، ان يكون مقدم البرنامج هو محامي الدفاع عن الطرف الآخر الغائب ، ولا يعني هذا تبنيه لوجهة نظره ، بل فقط لاثراء الحوار بالتنوع .
ما دفعني لهذه الكتابة ، ما شاهدته بالصدفة من حلقات برنامج " شاهد على العصر " الذي يقدمه احمد منصور في فضائية الجزيرة ، فانا لست من عشاق هذا البرنامج لما المسه من انحياز المقدم لوجهة نظر معينة دائما، سواء كان الذي يحاوره من نفس اتجاهه ام لا ، تماما كما امقت برنامج الاتجاه المعاكس ، رغم توفر طرفي الحوار ، لان المقدم يستفز الحضور ويؤلبهم على بعضهم ، كما لو اننا امام صراع الديوك .
في هذا البرنامج ، يستضيف مقدمه هذه الايام ، ما يسمى بكاتب البيان الاول لثورة 23 تموز في مصر ، لواء اركان حرب جمال حماد ، وهو على ما اعتقد من الضباط الاحرار ، سمعت منه تشويها لسيرة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، وهذا امر لا اعارضه ، فلكل شخص حرية ابداء الرأي ، وعليه ان يسند اتهامه بالاثباتات ايا كانت ، ولن اسجل عليه انه لم يبد رايه هذا الا بعد حوالي اربعين عاما من وفاة جمال عبد الناصر ، فربما ابداه في موقع اخر لم اطلع عليه ، وربما غير الرجل موقفه 180 درجة ، لتولد قناعات جديدة لديه ، وانا لست ضد تبديل الرأي استنادا الى معطيات جديدة مناقضة لمعطيات الرأي الأول ، بشرط ان لا يكون هناك تذبذب في الاراء طبقا للظروف والمصالح ، كأن يؤيد اولا ، ثم يعارض ، ثم يعود يؤيد وهكذا .
ما اغاظني في هذه الحلقات ، ليس تشويه الضيف لعبد الناصر ، فهو حر في رأيه كما قلت ، لكن الملفت للانتباه هو حماس مقدم البرنامج ، لكل ما يسيء الى الرئيس الراحل ، وطرح اسئلته بطريقة يظهر فيها كرهه لجمال عبد الناصر ، ومحاولته التسهيل على الضيف ، بالتقاط نقاط الهجوم ، بدلا من ان ينقل وجهة النظر المعاكسة ، أي المؤيدة لعبد الناصر وسماع تعقيب ضيفه عليها .
في جميع برامج احمد منصور في الجزيرة ، سواء في "شاهد على العصر" او في "بلا حدود " ، يستطيع المشاهد بسهولة ، ان يلمس انحيازه بوضوح ، لوجهة نظر معينة ، فان كان ضيفه من اصحاب وجهة النظر هذه ، يقدم له كل الدعم والمساندة ، وان كان من اصحاب وجهات النظر المعاكسة ، يقوم بالعكس تماما ، حتى انه لا يأخذ في اعتباره ظروفا معينة ، يجب ان تكون مانعا اخلاقيا للهجوم ، حيث يحضرني هنا ، مقابلة اجراها في احدى برامجه ، مع الدكتور رياض نعسان آغا ، مدير مكتب الرئيس الراحل حافظ الأسد آنذاك ، وكانت المقابلة بعد يوم او يومين من وفاته وقبل دفنه ، وفيها فسح المجال لشتى اشكال الهجوم على الرئيس الراحل عبر الهاتف ، ووجه اسئلة جارحة لا تليق بالمناسبة ، وكان اعتقادي حينها ، ان ضيفه ربما قد خدع بمضمون الحلقة ، وكان يظن ان هذا المضمون سوف يكون اكثر احتراما للرئيس الراحل .
حرية ابداء الرأي والرأي الآخر ، يجب ان تترافق دائما بالاحترام لكليهما ، وان يحتفظ مقدم البرنامج برأيه الشخصي لنفسه ، وان لا يبدي تعاطفه مع أي رأي ، الا اذا كان الرأي الاخر واضح العداء للوطن والامة ، ولعل في برنامج "زيارة خاصة " لمقدمه سامي كليب ، وعلى نفس الفضائية ، القدوة في هذا الاحترام .
m_nasrawin@yahoo.com