في ذكرى الحسين: من يدرك مرامي التجربة
أ. د. خالد شنيكات
13-11-2017 06:02 PM
تمر الذكرى السنوية على رحيل الحسين طيب الله ثراه، كما الدهر الذي يطوي بسرعة كوميض البرق، عاصرت عهد الحسين وانا طالب في الجامعة، وجذبني نمط القيادة وكاريزمية الشخصية، بل أبهرني اسلوب التعاطي مع القضايا السياسية، فقررت وانا طالب في ماجستير العلوم السياسية في الجامعة الاردنية، ان يكون موضوع رسالتي هو اثر عامل الشخصية في صناعة السياسة الخارجية، وان يكون دراسة شخصية الحسين هو تطبيق العملي على كيفية صناعة السياسة الخارجية وادارتها، وانتقلت من مرحلة الاعجاب بالشخصية الى مرحلة البحث فيها وفهم ابعادها.
وفي عالم البحث تختلف الانطباعات عن عالم البحث في حقائق، وتكون المسائل مركبة، بل معقدة دائما ولا تقرأ من جانب واحد، وتترابط الاحداث مع بعضها بشكل مدهش وفريد، ويطرح التساؤل على الباحث كيف تم ادارة كل ذلك.
دعونا نعود لأحداث محددة، فحينما كانت القومية المتزمتة والمتطرفة تستهدف التغيير الراديكالي في كل الدول، كان الاردن في عين العاصفة، وأمنه على المحك، ولم يكن الحسين في صراع مع القومية، بل كان من المؤمنين بها، ولكن ليس على طريقتهم، فالقضية ليست وحدة اندماجية تبنى ببيان رقم واحد، ان القومية هي بناء مؤسسات ونسج مصالح وتعزيز تكاملها، وليست قرارات مزاجية يتم أخذها في الصباح، ليتم الانقلاب عليها في المساء بنفس طريقة اتخاذ قرار الصباح، والقومية في ذهن الحسين ليست الصراع مع الاخر، بل ان يكون للامة العربية مكانا بين الأمم، وان يكون هناك حصة لهذه الامة في المساهمة الحضارية على المستوى الانساني.
ولان العالم العربي لم يعرف الاستقرار، بل عاش أزمات متلاحقة بين دوله، وذات طابع مفاجئ، تحرك الحسين بمهاراته التفاوضية الخاصة للتوسط بقوة للم الشمل واطفاء هذه الازمات قبل تفاقمها، وكانت ازمة اليمن في التسعينيات شاهدة على جهد الحسين، ومحاولات المصالحة بين العراق وسوريا والخليج، وادار أزمة ما عرف بخالد مشعل بنجاح ساحق، بل ان الحسين نفسه من قاد جهد المصالحة مع القوى الاخرى التي اختلفت معه على السياسات المحلية والخارجية، وبدى واضحا في شخصيته السمو والتسامح والابتعاد عن الانتقام، وكان الانقلاب الدموي ووحشتيه بحق الاسرة الهاشمية المالكة في العراق عام 1958 شاهدا على كيفية تعامل الحسين مع الموقف، وبحكم التركيبة الفريدة للشخصية، وعمق التجارب التي اثّرت بها، تجلت حكمة وتسامح الشخصية بشكل واضح في علاقته مع المعارضة السياسية، فلم يعرف الاردن حكم الاعدام بحق المعارضة، وبمعنى اخر ان الازمات المتتالية عمّقت خبرات الحسين في ادارة الازمات اللاحقة وحلها، وبدت قدرة الحسين على التعلم من التجارب استثنائية.
وفي العلاقة مع الغرب، فهم الحسين جيدا الثقافة الغربية، وجدلية المصلحة في العلاقة، وعرف مداخل القرار الغربي، وبنى علاقات شخصية مع زعماء الغرب قادته لتجاوز الكثير من الازمات التي واجهت الاردن، وحتى العالم العربي، وتحدث الحسين مع الغرب بصفته يمثل العرب في قضيتهم الاساسية اي القضية الفلسطينية، وبما يدفع بالمصالح العربية قدما للأمام، ويحافظ عليها، وهيمن على العلاقة عامل الثقة والاحترام.
وعلى مستوى السياسات المحلية والحكومية، بدا الحسين مدركا لمسألة دوران النخبة وتغيير الحكومات وربط ذلك بالإنجاز، فلا قدسية لأي مسؤول ليبقى الوطن، وبدا تجنيد النخبة يصب في ذات الاتجاه، وشهدت الحياة السياسية حالة من الحيوية والفعالية، ولم تعرف الحياة السياسية حالة السكون، وتجلت ذلك في كثير من الانجازات على المستوى التعليمي والبنية التحتية المتقدمة.
كان نزاعا نحو التوافق، والميل الى تفهم الاخر وسلوكه، وظهرت عقيدة الحسين السياسية مستقرة ومتماسكة، وكان العقل المفتوح سمة ثابتة في شخصيته، وعاش حالة سلام داخلي مع الضمير، وظهر ان جميع من قابلهم كانوا اصدقاءه، وفي متناول يده.