آخر فكرة وصلتنا من وزارة التربية والتعليم هي اطلاق مشروع “المدرسة الوقفية “ ولانني منحاز منذ سنوات طويلة لاعادة ترتيت اولويات الوقف بحيث تتجاوز بناء المساجد لتشمل بناء مدارس ومستشفيات ودور للايتام والمسنين ومسارح ..الخ فان ما فعله وزير التربية الدكتور الرزاز يستحق التقدير والاشادة ناهيك عن الدعم ايضا.
لدينا في الأردن تجربة مع الوقف لكن هذه التجربة ظلت مرتبطة بوزارة الاوقاف وبالتالي انصرفت معظم الوقفيات لبناء المساجد بحجة رغبة الواقفين، ثم انشئت مديرية لادارة اموال الوقف، نجحت احيانا واخفقت احيانا اخرى، لكن آخر اخبار الوقفيات كان مبادرة من الملك الذي خصص وقفيتين بنحو 4 ملايين دينار، احداهما لدراسة فكر الامام الغزالي، والاخرى لدراسة فكر الامام فخر الدين الرازي، حيث تعتبر هذه الكراسي العلمية التي يشرف عليها الامير غازي بن محمد مبادرة لانعاش الفكر الاسلامي المعتدل.
من المفارقات ان معظم الجامعات الامريكية والغربية تستند الى نظام الوقف، حيث تحرك الاثرياء والميسورون هناك للمساهمة في بناء المؤسسات التي يعود مردودها على “الصالح العام “، فيما لا نزال نتذكر باعجاب فقط ان تاريخنا العربي والاسلامي حفل بتجربة عميقة في هذا المجال، الفاعل الاساسي فيها هو المجتمع الذي تحرك حين عجزت الدولة آنذالك عن القيام بهذا الدور، حتى اصبح هناك مؤسسات وقف لرعاية الخيول المتعبة من الحروب، وللتعويض عما تكسره الخادمات في البيوت، ومارستانات للمرضى الفقراء، ودور رعاية للقطط والحيوانات الاليفة، هذا بالطبع بعد ان استنفد الواقفون كل ما يتعلق بالناس من خدمات اساسية.
سبق لي قبل سنوات ان سألت : كم يبلغ عدد دور الايتام في بلادنا، وما هو حجم “الوقف” الاسلامي في مجالات مثل: التعليم والصحة، ولماذا لا يقبل “الواقفون” على التطوع لبناء “دار سينما” اسلامية، او مسرح اسلامي، أو - حتى - مأوى للفقراء ومجهولي النسب أو مدارس وجامعات ومستشفيات..؟؟ لماذا تذهب الاموال - معظمها - لبناء المساجد مع أن لدينا فائضا فيها، ومع ان الصلاة - بالنسبة للمسلم - تجوز في أي مكان وصعيد، ومع ان الهدف من “البناء” والعمران هو الانسان لا المساجد، فيما يتردد اخواننا الموسرين عن دفع الصدقات أو التبرع بما زاد من اموالهم لاقامة ما يحتاجه مجتمعنا من مؤسسات او مصانع منتجة أو دور رعاية للمكفوفين أو غير ذلك من المجالات التي نفتقدها ونحتاج اليها (لا تقل ان ذلك مسؤولية الدولة فالجميع مسؤول ايضا).
لم تصلني منذ ذلك الوقت اية اجابة، لا رسمية حيث الجهات التي تشرف على الوقف، ولا من الواقفين والاخرين الذين جلسوا بعد ان عزفوا عن وقف اموالهم لاي شيْ، لكن وجدت من واجبي ان اضع ما انتهيت اليه من اسباب بحكم متابعتي للموضوع,من اهمها اننا نمارس نمطا من “التدين المعكوس” الذي تغيب فيه عنا مسألة ترتيب الاولويات، فنحن نتعبد ونتقرب الى الله تعالى بأمور محددة، ونعتقد انها - وحدها - تختزل مفهوم العبادة، فيما الحقيقة ان كل عمل صالح عبادة، وان قبوله وجزاءه مرتبط بما يقدمه من خدمة للناس، وبالتالي فان بناء مدرسة او جامعة أو دار للايتام هي عبادة، واحسب انها اقرب الى الله تعالى من بناء “مسجد” خاصة اذا كان لدينا وفرة في المساجد.. وندرة وحاجة الى هذه المرافق.
من الاسباب - ايضا - ان “الواقفين” والموسرين لا يثقون بنظام وادارة الوقف، وان اندفاعهم الى بناء المساجد، لا غيرها من مرافق المجتمع، هو من باب “الاحتياط” والاطمئنان الى ان اموالهم تذهب في الطريق الصحيح، حيث ان المساجد آمنة من التدخل ومن سوء الادارة، فيما يبقى غيرها معرضا لانواع شتى من الشكوك والتدخلات.
ومن الاسباب ان خطابنا الدعوي ما زال يقدم للناس “ثواب” بناء المساجد على انه “الافضل” والاقرب الى طاعة الله ونيل مرضاته، فيما لا يشير - الا في حالات استثنائية - الى ان “ثواب” اغاثة ملهوف، او اقامة مصنع، اوبناء مدرسة لا يقل ثوابا عن بناء مسجد.
اعتقد - والله أعلم - ان بناء مدرسة لتعليم الطلبه الفقراء او بناء دار للايتام أو اقامة مستشفى للسرطان أو بنك طعام للفقراء أو - حتى - دار للسينما الاسلامية مقدم - اليوم - على بناء المزيد من المساجد اذا كانت المسألة تستدعي ترتيب الاولويات.. واذا كان اخواننا الموسرين يريدون ان يتعبدوا بأموالهم طلبا لرضى الله تعالى وخدمة الناس ذلك ان أقربنا الى الله اكثرنا نفعا لعباده.. وأي نفع اكبر من معالجة مريض أو تعليم طالب فقير أو سد عوز أسرة مستورة، أو مساعدة شاب على الزواج أو غير ذلك من ابواب الخير التي يحتاجها مجتمعنا، هذه المجالات كلها بمثابة “مساجد” نتعبد بها ودورها لا يقل عن دور المسجد الذي نصلي فيه.
هذه - بالتأكيد - ليست دعوة لوقف بناء المساجد - معاذ الله - وانما للالتفات الى مجالات اخرى، واهمها بناء مدرسة استجابة للدعوة التي اطلقها صديقنا الدكتور الرزاز.
الدستور