القدس، باقي الضفة الغربية، الجليل، النقب، كلها مناطق تواجه واقعا سياسيا واحدا، هو مضمون الصراع على الأرض، الصراع على الوجود في وجه حركة استعمارية/ «استيطانية»/ إحلالية تسعى حثيثا لاقتلاع الفلسطيني من أرضه وإحلال غريب فيها. والاعلام العربي والفلسطيني قلما يسلط الضوء على «منطقة النقب» على الرغم من أهميتها في المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي، والتي تبلغ مساحتها حوالي 13 مليون دونم (أكثر بقليل من نصف مساحة فلسطين التاريخية). ففي ظل حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف، يواجه النقب اليوم أخطر مخطط ترانسفيري كولونيالي اقتلاعي يستهدف تهجير الأهالي، عبر إحداث تغييرات جغرافية وديمغرافية تمنع التواصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ذلك أن بقاء عرب النقب على أراضيهم يساهم في التواصل الجغرافي مع غزة، ما يهدد الصبغة اليهودية «النقية» المنشودة للدولة الصهيونية. وقد ظهر ذلك في تصريحات رئيس الحكومة (بنيامين نتنياهو) حين قال: «تزايد العرب البدو في النقب يشكل خطرًا ديموغرافيًا»، وذلك بعد أن سجلت نسبة تكاثر المجتمع العربي في النقب زيادة بمقدار 5% سنويا.
يخوض عرب النقب (الذين يسكنون في القرى العربية مسلوبة الاعتراف «45 قرية» تخطط إسرائيل لهدمها) حرباً شرسة مع سلطات الاحتلال حماية لأراضيهم والدفاع عنها، حيث تقوم إسرائيل بزرع التجمعات «الاستيطانية» والمزارع الخاصة والحكومية الممتدة على مساحات شاسعة من الأراضي المحاصرة بالتجمعات السكانية البدوية، فضلا عن إغلاق مساحات واسعة من الأراضي بغرض التدريبات والمناورات العسكرية. والدولة الصهيونية، التي تدعي أن بدو النقب «مواطنون إسرائيليون متساوو الحقوق»، تسعى لتقليص وجود القبائل البدوية من أجل مزيد من التهويد، فقريتي «أم الحيران» و»عتير» مهددتان بالهدم والترحيل لبناء «مستوطنة» حيران، فيما هدمت قرية «العراقيب» للمرة الـ119 على التوالي.
في ذات السياق، تم الكشف مؤخرا، عن قيام سلطات الاحتلال بسحب المواطنة من آلاف العرب في النقب خلال السنوات الماضية بذرائع مختلفة. ويستدل من الصحافة الإسرائيلية أن قسما كبيرا من مسلوبي المواطنة كان يحمل الجنسية لعقود، وحتى أنه شارك في التصويت في الانتخابات للكنيست (البرلمان) الإسرائيلي، ولكن فجأة وجدوا أنفسهم من دون مواطنة، حيث تزعم وزارة الداخلية أن هذه المواطنة مُنحت بالخطأ، وذلك من دون تقديم أية تبريرات أو تفاصيل!!! وبحسب «المركز للدفاع عن الحقوق القانونية – عدالة»، فإن هذه السياسة تمارس منذ عام 2010. وبين مركز «عدالة» أن قسما من البدو «كانوا يحملون المواطنة (الإسرائيلية) لعشرين وثلاثين وأربعين عاما، وصوتوا في الانتخابات وسددوا الضرائب، وبعضهم خدم في الجيش الإسرائيلي، وفجأة سُلبت المواطنة منهم ولم يعودوا يحملون الجنسية». وبعد سحب المواطنة يتحول الشخص إلى «مقيم دائم»، أي أن مكانتهم تصبح شبيهة بمكانة فلسطينيي القدس المحتلة، وعليه إذا لم يوجدوا في البلاد لفترة طويلة، فإنه قد تُسحب منهم مكانتهم كمقيمين دائمين أيضا. وفي هذا يقول الصحفي الفلسطيني «الإسرائيلي» (جاكي خوري) في مقال نشرته صحيفة «هآرتس»: «الأمر يتعلق بظاهرة واسعة في الوسط البدوي في النقب. مئات الآلاف منهم يخسرون جنسيتهم بسبب خطأ في التسجيل!!! هذا هو التبرير السائد الذي أعطي لهم جميعا من دون تفصيل ومن دون تبرير».
في المقابل، ومنذ 3 سنوات، تنقل الصحافة الإسرائيلية قلق الأجهزة الأمنية من الانخفاض الحاد في نسبة التجنيد للشباب العرب في النقب بعد انكشاف أكاذيب ربطت التجنيد بتحسين ظروف المعيشة، والسماح لعرب النقب بالبناء والسكن في أرضهم وربطهم بالخدمات الأساسية، كمواطنين إسرائيليين، فيما ازداد حجم الملاحقة السياسية والمدنية للمواطنين العرب بشكل كبير وسجلت جرائم قتل وتنكيل بهم في النقب من قبل رجال شرطة الاحتلال في السنوات الأخيرة. وردا على الانخفاض الحاد آنف الذكر، دخلت مشاريع مشبوهة منذ نحو عامين، لا تعمل على التجنيد المباشر إنما على تشكيل الهوية وتمهيد الطريق للشباب البدو للانضمام للمؤسسات العسكرية والأمنية ومحاولة تقليص الفجوة بين المجتمع العربي والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وتهدف هذه المشاريع، التي تختبئ وراء مصطلحات بناء الشخصية والمستقبل الأكاديمي، إلى دمج الشباب في مؤسسات إسرائيلية كوزارتي «الدفاع» (الجيش) والزراعة في إطار ما يسمى «الخدمة المدنية» التي هي شكل من أشكال التجنيد.
ما يواجهه النقب، هو استمرار لسياسة الفصل العنصري ومحاصرة الوجود العربي، بدء من نهب الأرض وهدم البيت، مرورا بسياسة الإفقار والملاحقة وتشويه الهوية، وانتهاء بتحديد النسل. وهذا كله يضاف لممارسات فاشية وقوانين عنصرية تكرس يهودية الدولة وهيمنة اليمين المتطرف وتخلد الاحتلال وتشرعن الاستعمار/ «الاستيطان». إذن هي سياسة تطهير عرقي. الهجمة في النقب، كما في الجليل والقدس والضفة الغربية، الهدف منها واحد وفق ذات الآلية الإسرائيلية القديمة/ الجديدة: «أرض (يهودية) أكثر» و»عرب أقل»!!!
الراي