هل الدين مجرد وسيلة ام غاية؟ وهل هو لخدمة الانسان ام ان الانسان منذور لخدمته، وهل المطلوب - تبعا لذلك - تقديس الدين بمعنى وضع الاسيجة حوله ومنع التفكير فيه او الاقتراب منه ام ان المطلوب من التقديس والسمو - هنا - الاحترام والالتزام وعدم الاجتراء.
ثم هل المقاصد والاحكام والتعاليم التي جاء بها الاسلام تحمل طابع القداسة والثبات - بمعنى الجمود - ام انها تحتاج - وتدعو ايضا - الى فهم بشري يتناسب مع وظيفة الانسان في الكون ومقدراته النسبية على فهمه وسبر اغواره وادراك ما يقدمه من تصورات وحلول لمشاكلنا المعاصرة.
لا تنقصنا الاجابات على ذلك، فقد حفلت مؤلفات فقهائنا بكثير من التفاصيل حول هذه الاسئلة، فالشرائع - كما يقول الشاطبي - تابعة للمصالح، وما دام علمنا محدودا فان حفظ مقاصد الشريعة له اوجه قد يدركها العقل وقد لا يدركها واذا ادركها فقد يدركها بالنسبة الى حال دون حال او زمان دون زمان ... الخ، وعليه فقد اقر الفقهاء مبدأ تغيير الفتوى تبعا لتغير الازمنة والامكنة، كما اقروا مبدأ تأجيل تطبيق النصوص او وقفها لا الغائها.. ثم ان الاسلام الدين الوحيد الذي يكافىء المخطىء على اجتهاده، فمن اجتهد واصاب فله اجران، ومن اخطأ فله اجر واحد.
والسؤال: لماذا نثبت هذا الحديث الفكري على هامش ما يبدو من اعراض سياسية لقضية التدين وما يجري من اشتباكات حربية في عالمنا العربي والاسلامي ؟ الجواب: ان ظاهرة التدين التي دعونا الى ترشيدها تحتاج لمثل هذه الحوارات والنقاشات، لا الى الحلول الامنية ولا الى المحاكمات الاستثنائية وقرارات الاعدام -كما حدث في اكثر من مكان -، زد على ذلك حاجتنا الى تشجيع تيار الاعتدال في ساحتنا الاسلامية وقطع الطريق على الذين دفعناهم للاساءة الى الاسلام باسمه لا لانهم مجرمون وانما باعتبارهم ضحايا، بحاجة الى مشاف للعلاج والاصلاح، لا الى احكام للطرد والاستئصال.
لدي ملاحظتان على الموضوع : الاولى هي ان التدين ليس مشكلة بحد ذاته، وانما يصبح مشكلة حين يستخدم كغطاء لارتكاب الاخطاء وتمرير الباطل، او كذريعة لاقتناص الدنيا باسم الدين، وهنا يتحول الدين من وسيلة لتنمية ما بداخل الانسان من قوى روحية ومعرفية.. الى وسيلة لاحتكار الحقيقة او سلاح لنفي الاخر وتدميره، وهنا يقع المحذور ويصبح التدين مغشوشا بامتياز.
اما الملاحظة الثانية فهي انه اذا كانت القداسة ارتبطت بكل الاديان فانها في الاسلام قد اختفت تماما (حل مكانها الاحترام والاجلال) فلا مناطق محرمة على العقل والتفكير والنقاش ولا شرطة ثقافية ولا مخافر ولا سياجات فكرية تحول بين الانسان وعقله وحريته في الخلق والابداع، بل والخيال ايضا. وفي المعجم الاسلامي الصحيح لا نكاد نجد مصطلحا واحدا يشير الى البابوية او الارثوذكسية او اي منصب يربط الانسان بمرسوم خاص من الله او الدين، مما يعني ان الخلق كلهم عيال الله وهم بالنسبة للمسلم اما اخوة في الدين.. او امثال في الخلق.. ولعل هذا ما دفع خليفة المسلمين الاول الى استبدال لقب خليفة الله بخليفة المسلمين ظنا منه ان فهمه للدين وسلوكه كبشر يخطىء ويصيب لا يجوز ان يتقاطع مع جوهر الدين الثابت، فهو ليس خليفة لله، او ظلا له تعالى او نائبا عنه وانما خليفة للمسلمين باختيارهم، وسلوكه واجتهاده محسوب عليه لا على الدين المنزه عن الخطأ والزلل.
الدستور