ذكريات السنوات الأولى في جامعة اليرموك
أ.د. عصام سليمان الموسى
08-11-2017 02:05 PM
عرضت في مقالة سابقة في عمون لكتاب تاريخ جامعة اليرموك وأحداثها: 1976-1986
تأليف: د. كامل العجلوني، وادانة اللجنة التي شكلت برئاسة المرحوم ا.د. ناصر الدين الأسد وزير التعليم العالي حينئذ للحدث الذي نجم عنه مقتل ثلاث من طلبة الجامعة وعزل الرئيس.
ولتكتمل الصورة، أجد من واجبي، وخدمة لتاريخ الجامعة وتطورها، التعريج على بضعة امور عايشتها بنفسي في هذه المرحلة، باعتبار اني عملت في اليرموك من سنة التأسيس عام 1976 ولأكثر من ثلاثين سنة لاحقة بعد ذلك التاريخ.
قصة عملي في اليرموك
لقد عملت في جامعة اليرموك منذ افتتاحها في 15/9/1976، ويرد اسمي في كتاب الدكتور العجلوني في (ص 85). وقصة عملي في الجامعة درامية، اذ كنت عائدا من لندن الى الدوحة في قطر حيث كنت أعمل رئيس تحرير النشرة الإخبارية الانجليزية المسائية في تلفزيون قطر، علاوة على وظيفة ثانية في النهار وهي مدير مكتب مدير الإعلام الطيب صالح الروائي السوداني المعروف الذي اعارته هيئة الاذاعة البريطانية لدولة قطر حديثة الاستقلال، فعمل مديرا للإعلام عقب الأستاذ محمود الشريف . وكنت بدأت عملي بقطر نهاية عام 1972، مع الأستاذ محمود الشريف مؤسس اعلام قطر. وفي الحقيقة كنت مرتاحا وأتقاضى راتبا معتبرا حولت كل توفيراتي منه لوالدي –رحمه الله – فساعدته التوفيرات التي بعثتها انا وتوفيرات أخي المهندس يوسف من عمله في سلطنة عمان ، من بناء منزل لنا في تلاع العلي تألف من خمس شقق نالني منها لاحقا واحدة كما والدي واخواني الثلاثة. وساهم الدخل من تأجير هذه الشقق في تعليم اخوي الصغيرين مروان وسهيل في افضل الجامعات.
كنت اذن في لندن في مهمة لوزارة الإعلام القطرية، وكعادتي كنت كلما سافرت في مهمة من قطر أجعل طريق العودة من عمان فأزور الأهل وأقضي بضعة أيام معهم.
بعثة من اليرموك
حين تأسست جامعة اليرموك اعلنت عن رغبتها بإيفاد مبعوثين للخارج فقدمت طلبا عن طريق والدي وكنت وقتها أحمل شهادة الماجستير في الأدب الإنكليزي من جامعة أندروز الأميركية، فوافقت لجنة البعثات على اعطائي منحة للدكتوراه في أمريكا في الأدب الانجليزي (مولت دراستي للماجستير في أمريكا من توفيراتي نتيجة عملي لمدة عامين في الكلية الحربية بالرياض مدرسا في ثانويتها العسكرية فوفرت ( 4500 ) دولار امريكي غطت مصاريف الدراسة مع العمل داخل الجامعة أغسل الصحون في مطعم الجامعة). وبعد ان وصلت الى عمان من لندن، ذهبت لتوقيع عقد البعثة في مكتب الارتباط الذي كان موقعه في الجمعية العلمية الملكية حيث قابلت أمين عام الجامعة الصيدلي (دولة الدكتور) عبد الرؤوف الروابدة. قال لي: نحن بحاجة الى مدرسين في مادة اللغة الانكليزية في الجامعة التي ستفتح قريبا، وانت تحمل شهادة الماجستير من أمريكا بالأدب الإنجليزي، والوطن بحاجة لك الآن ، فمطلوب منك ان تدرس عاما في اليرموك ثم تذهب في بعثتك للدكتوراه لأمريكا العام القادم. قلت له هذه قضية لا تقبل التردد: فالوطن أولا دائما. وهكذا وقعت عقدين معه: الأول عقد العمل في جامعة اليرموك محاضرا متفرغا لتدريس اللغة الإنجليزية، والثاني عقد منحي بعثة دراسية، وكان من شروط تلك البعثة العمل ضعف مدة الدراسة في جامعة اليرموك بعد الدكتوراه.
وهكذا كان: عدت الى قطر، وقدمت استقالتي وعدت في منتصف شهر آب بسيارتي (الفيات) عبر السعودية والكويت والعراق- في رحلة سياحية زرت خلالها صديقي نديم الباتع في الدمام وصديقي خالد بزاري في الكويت. وحين وصلت عمان بعد رحلة متعبة، خاصة في الأراضي العراقية، كنت في غاية الرضى عن نفسي وعما قمت به. بعد شهور قليلة تمنيت لو بقيت في الدوحة، ولم اعمل تلك السنة في اليرموك. غير ان كتاب الدكتور كامل العجلوني عن جامعة اليرموك بعد مرور 40 عاما على تأسيسها أحيا الجراح التي كادت ان تندمل وبين الخلل الذي كنت انا من ضحاياه.
وحدات البيوت الجاهزة عام 1976
كان من جملة الاغراءات التي قدمها الروابدة لي لترك عملي في قطر وعدا بأني سأعطى مثل بقية الأساتذة منزلا مؤثثا في حرم الجامعة. يذكر كتاب الدكتور العجلوني ان الوحدات السكنية كانت "جاهزة قبل بدء العام الدراسي" (ص 86)، وهذه مبالغة كبيرة ، اذ ان "بعض" الوحدات كان جهز فعلا ، واعطيت هذه الوحدات "لكبار" المسؤولين في الجامعة، اما البقية أمثالي فكان عليهم ان ينتظروا. وشخصيا، انتظرت الوحدة التي اعطيت اليّ حتى مطلع عام 1977، اي بعد مرور اربعة شهور من بدء الدراسة تقريبا، اضطررت خلالها الى استئجار غرفة مفروشة بعد ان تعبت من السفر يوميا بباص الجامعة الى اربد والعودة الى عمان. وبعد ان تزوجت في 24/12/1976 استأجرت بيتا لم أؤثثه الا بالضروري باعتبار ان الجامعة كانت تقول ان الوحدة ستجهز قريبا.
المفاجأة
ورغم المعاناة والاصطبار وقلق الانتظار والمرمطة، وعند نهاية عام 1976، اي بعد بدء الدراسة بحوالي ثلاثة شهور ابلغني الدكتور عزت العزيزي المدير الإداري بمذكرة ارسلها لي بأن الشقة "سحبت" مني وحولت الى شخص آخر. ذهبت اليه معترضا فرد بقسوة ان علي ان ادبر حالي وان هناك من هم اهم مني وستعطى لهم الوحدة، وحين احتججت وقلت له سأذهب لرئيس الجامعة قال "بلط البحر". وذهبت لرئيس الجامعة الدكتور بدران على أمل ان ينصفني فكان استقباله باردا لم يساعد بشيء، بل انه قال "ألا يكفي اننا وظفناك؟؟". قلت له اني لم اطلب الوظيفة بل استجبت لرغبة أمينها وشرحت له ما حصل مع الروابدة، فلم يرد علي، بل ولم يرفع رأسه عن ورقة كان ينظر اليها وغليونه مشتعل ينفث منه دخانا. ادركت اني امام ادارة لا تحترم وعودها او موظفيها. وخرجت غاضبا حانقا. والتقيت في طريق خروجي الدكتور ناجي ابو رميلة، وقرأ الغضب في وجهي، فسألني "ما بك غاضب؟؟"، ولما عرف السبب قال: "يبدو انهما اغتنما فرصة غياب الدكتور فكتور بله رئيس لجنة الإسكان في مهمة خارج البلاد وصادرا الوحدة السكنية التي قررتها اللجنة لك"، واقترح علي ان أكتب ملاحظة للدكتور فكتور أشرح له فيها ما حدث. وفعلا كتبت ملاحظة تركتها للدكتور فكتور مع سكرتيرته. وعدت الى عمان وانا افكر بيني وبين نفسي أن اترك الجامعة لسوء الوضع الاداري فيها وهي التي كنت اتخيلها في ذهني مؤسسة مثالية. وخفف من غضبي ان بعد بضعة ايام اتصل بي الدكتور فكتور وأنبأني بإعادة الوحدة السكنية لي، فاستكانت نفسي.
أرضيات وحدات السكن
ويتطرق الكتاب الى تعيين المهندس رائف نجم مديرا للمكتب الهندسي براتب 800 دينار. وقيل وقتها ان المكتب الهندسي الذي كان يرأسه كان مسؤولا عن تهيئة الارضية للوحدات السكنية الجاهزة التي اعطيت للأساتذة بصبها بالسمنت. لكن يبدو ان بعضها اعد بدون وضع شبكة حديد ارضية مناسبة في الصبة الإسمنتية، فبدأت الوحدات الجاهزة تتفسخ بعد هطول المطر بسبب ان طبوغرافية ارض اربد ترابية طينية غير صخرية، فكان الساكن في الليالي الماطرة يغلق الباب في المساء لكن يصعب فتحه في الصباح التالي لأن الأرضية تكون تحركت . وأعرف زملاء قفزوا من نوافذ سكنهم للحاق بمحاضراتهم في الصباح الباكر. وكان عمال الصيانة يتنقلون من بيت الى آخر لإصلاح تلك البيوت. وقد تم تدارك هذه المشكلة في الوحدات التي بنيت لاحقا فوضعت شبكة حديدية افضل. وهذا يؤشر ان المناصب في الجامعة كانت تعطى بحسب الأهواء اذ ان اي مهندس من اربد يعرف طبيعة الأرض هناك ويعرف كيف يتعامل معها أفضل من مهندس لا صلة له بالواقع الجغرافي للمنطقة.
سكن الجامعة الشرقي
مع نهاية العام الدراسي انطلقت مسافرا الى أمريكا لدراسة الإعلام. كنت خلال عملي قرأت ان الجامعة قررت فتح قسم للإعلام والصحافة، فسألت الدكتور بدران ان يحول بعثتي معللا طلبي باني عملت طيلة السنوات الماضية في الإعلام، وابرزت له شهادات الخدمة. وافق لكنه اشترط ان احصل على قبول من جامعة امريكية جيدة. وهكذا كان. كلفني ذلك القرار سنة اضافية لأني قررت ان احلل صورة العرب في الصحافة الأمريكية مما لم يجد قبولا عند اساتذة متصهينين فأعاقوا دراستي بل حاولوا افشالي. لكني تغلبت عليهم في نهاية سنة طويلة من المماحكات، وهكذا أنهيت دراستي من جامعة واشنطن في اربع سنوات.
بعد رجوعي من أمريكا ذهبت مسلما على الدكتور بدران رئيس الجامعة فقال لي عليك ان تباشر الدوام فورا من الآن في دائرة الصحافة والاعلام ، وفعلا داومت، وكان رئيس الدائرة الدكتور مازن عرموطي، لكن حين استلمت الراتب تبين لي ان الراتب لم يشمل تلك الفترة بدءا من مباشرتي العمل والتي زادت عن نصف شهر. ولما راجعت لم استفد شيئا.
شقة في الاسكان الشرقي
وفي هذه الأثناء قدمت طلبا لقسم الاسكان فأعطيت شقة مفروشة في السكن الشرقي. وبعد ان سكنت فيها ونقلت اسرتي من عمان اكتشفنا عطلا مزعجا، ذلك ان مياه المجاري تفيض في المطبخ كلما امتلأت جورة المياه العادمة . الدكتور الذي سكنها قبلي واستلمتها منه أكد لي انها شقة ممتازة وانه كان "يستمتع بهوائها العليل"، لكن كان يبدو انه يريد ان يتخلص منها بأي ثمن. كان وضعا مأساويا، فراجعت الدكتور بدران مع زوجتي نحمل ولدي الطفلين، وصدف حضور اللقاء الدكتور جاسر الشوبكي. شرحت للدكتور بدران وضع الشقة المزري وطلبت تغييرها، فرفض بإصرار. كان يتحدث الينا وهو ينظر الى اوراق أمامه ويدخن غليونه . وامام رفضه تدخل الدكتور الشوبكي ورجاه وقال له ساعدهما من اجل الطفلين، لكنه أصم أذنيه.
خرجت وزوجتي بحالة صدمة. كانت نفسي تفيض قرفا . لم يكن امامي اي خيار الا إخلاء الشقة والعودة الى عمان ، الى شقتنا بجوار شقة والدي في تلاع العلي. لم نكن نتوقع مثل هذه المعاملة . وزاد اشمئزازي اني حين طلبت من الرئيس بدران ان يعطيني شقة في السكن الجنوبي داخل الجامعة وبناياته من الحجر النظيف والذي كان قيد الانشاء، قال ان اجرته غاليه "أعلى من مستواي"، فقلت له اخصم الإيجار من راتبي وانا اتحمل المسؤولية. نفث غليونه وأدار وجهه الى الناحية الأخرى وأصم أذنيه. رحلت الى عمان. . لكن المعاناة التي تكبدناها خلال فترة الرحيل واعادة الترحيل كانت مكلفة ومؤلمة، اذ اجهضت زوجتي حملها .
وبعد المرمطة لأشهر طويلة بين عمان واربد، استضافني في شقته الدكتور طلال العكشة بكرم اهل الكرك واريحيتهم، وبقيت معه الى ان وافق الرئيس بدران بعد فترة ليست بقصيرة ان يعطيني شقة في السكن الشرقي، وأظن بأجرة أعلى من المقرر، وكانت هذه المرة في الطابق الثاني لحسن الحظ، وبقيت فيها الى ان بنيت منزلا في اسكان العاملين بجامعة اليرموك في أراضي بلدة الحصن، وانتقلت اليه عام 1988.
ارض ضائعة
فوجئت من حقيقة اوردها كتاب العجلوني وهي ان الدكتور بدران كان وراء الاحتفاظ بموقع الجامعة في اربد بعد قرار انفصال الجامعتين (التكنولوجيا عن اليرموك )، مع انه طيلة الوقت كان يؤكد لنا اننا في موقع مؤقت وسننتقل الى الموقع الدائم (حاليا موقع جامعة العلوم والتكنولوجيا على اراضي الرمثا) قريبا. هذا الكلام كان دافعا لي ولعدد من الزملاء شراء أرض غير مفروزة بناء على توصية من مدير أراضي الرمثا حينئذ غسان الشريدة الذي اجتمع بنا في منزل أحد الزملاء (المرحوم الدكتور محمود الحناوي)، ويومها اشتريت مع الآخرين. وتبين لاحقا ان الأرض التي اشتريناها صعب افرازها لكبر حجمها. هذه الأرض اعتبرها الزملاء ارضا "سليبة"، وقال لي الدكتور سلطان ابو عرابي الذي له حصة معنا: "انسى أمر هذه الأرض".
استثمار خاسر
من مفاجآت القدر ان الزميل في كلية الإعلام الدكتور هاشم السلعوس اعطاني مذكرة عام 2012 مكتوبة بخط الدكتور بدران تعود لعام 1981 يقول فيها ان "استثمار الجامعة " في ابتعاثي للدكتوراه "كان خاسرا"، ويوجه رئيس الدائرة الدكتور مازن العرموطي ان يلزمني بالدوام. انا لا أذكر اني تغيبت يوما عن محاضرة، ولم اتغيب عن الدوام يوما، في وقت كانت زميلة لنا في الدائرة بحكم صلتها لا تداوم مطلقا ويتولى التدريس عنها مساعد بحث وتدريس. كنت شخصيا ملتزما بالتعليم الجاد طيلة حياتي العملية وهذه من قناعاتي الأساسية في الحياة، واعتقد ان طلبتي يشهدون لي بذلك. حتى الآن لا أعرف لماذا كتب الدكتور بدران تلك المذكرة؟ بالتأكيد انها نتيجة شكوى علي رفعت اليه. ومن رفعها؟ لا ادري. لكن ما دمت مقصرا ، ألم يكن الأولى به ان يحيلني لمجلس تأديبي ؟؟ ولماذا لم يكلف عميد كلية الآداب او احد نوابه الاتصال بي وابلاغي بتقصيري او توجيه انذار لي. هذه المذكرة لم تصلني قبل عام 2012، واخبرني الدكتور السلعوس الذي اعطانيها انها كانت تستخدم ضدي في اماكن ومناسبات كثيرة.
جمود الجامعة
خالف الدكتور بدران تعليمات الجامعة وأبقى لدائرة الصحافة والاعلام مديرا واحدا طيلة هذه السنوات . تغير عمداء كلية الآداب لكن الدائرة بقيت تدار من قبل مدير واحد حتى عام 1987 العام الذي غادر فيه بدران بعد قرار اللجنة وجاء الدكتور محمد حمدان رئيسا.
الخلاصة
ان ما اوردته من ملابسات حدثت معي ينسجم تماما مع ما اورده الدكتور كامل العجلوني في كتابه عن جامعة اليرموك وعن ادارتها في السنوات الأولى.
لهذا اعتبرت كتابه وثيقة في غاية الأهمية كشف بالأدلة والشهود ملابسات مرحلة التأسيس الأولى لجامعة اليرموك، ولم تكن مرحلة بنائية كما يتوجب ان تكون. وكشف الكتاب عن خبايا كان من الممكن ان تضيع لولا الجهد الجبار الذي بذله مؤلفها ، وهو كتاب يجب ان يقرأ ويحلل ويراجع لأنه يبين مخاطر الهدر على أعلى المستويات، ويقدم صورة حية موثقة بالشهادات الواضحة على سوء ادارة مؤسسة تربوية على يد شخصية متفردة غائبة في سفريات خارج المملكة وتعمل على اصدار قرارات متسرعة تقود الى انفجارات غير مسبوقة في تاريخ الجامعات الأردنية ادت الى مقتل ثلاث من الطلبة.