حينما شاهدتُ النساء والرجال أول من أمس في المدينة الطبية يسلمون جلالة الملك الرسائل ويحتفظ بها في جيبه ولا يجعل مسؤولي التشريفات الملكية يتسلمونها، أدركتُ كم من الأبواب طرَقها هؤلاء قبل أن يصلوا إلى الباب الذي يشرّعه الملك لكل الأردنيين.
كان أصحاب هذه الرسائل من أسر ذوي شهداء الخدمات الطبية الملكية أثناء الاحتفال بيوم الوفاء والبيعة.
ولعل في إصرار جلالته أن يطالع هموم شعبه بنفسه ما يؤكد على أن الناس يعلمون علم اليقين أن الملك لا يرد سائلاً أو محتاجاً.
أخذني المشهد إلى مجموعة من الحيثيات والتفاصيل فوصلت إلى ما يشبه الاعتقاد بأن الملك يتعين أن يتدخل في كل صغيرة وكبيرة حتى تسير الأمور على الطريق السليم، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق في دولة سكانها يناهزون الستة ملايين.
وأذكر أن مشروع تدريب الصحافيين وتأهيلهم على نحو احترافي وتطوير التشريعات التي ترقى بالمهنة وتمنع حبس الإعلاميين لأسباب تتصل بالرأي والتعبير كان لازمة يكررها الجميع، وشعاراً يطيب للكثيرين ترديده. لكنّ أحداً لم يتحرك قيد أنملة لتفعيل هذا الشعار حتى التقينا جلالة الملك في التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وطلب من رؤساء التحرير تفعيل التشريعات وتدريب الصحافيين واعتبار حبسهم خطاً أحمر لن يسمح لأحد بتجاوزه.
يومها تنادينا كرؤساء تحرير وإعلاميين إلى نقابة الصحفيين من أجل تلبية النداء الملكي، ووضعنا التصورات والخطط، واصطرعت منّا الأفكار والعصوفات الذهنية، لكنّ شيئاً من مطالب الملك لم يتحقق حتى الآن، وكأننا ننتظر جلالة الملك أن يذكّرنا بما أمر.
وعلى الضفة الأخرى من المشهد، يقف مسؤولون، أقسموا اليمين أمام الملك على تأدية رسالتهم بكل أمانة وإخلاص، عاجزين عن التصدي لأبسط معايير العمل والإنجاز. واستطرادا، فقبل نحو شهرين وضعنا وزير المياه والري ضمن زاوية "مسؤولون ضد الشفافية" وهم المسؤولون الذين يحجبون المعلومات عن الصحافة والإعلام، وهو مطلب شدّد عليه جلالة الملك في اللقاء المذكور مع رؤساء تحرير الصحف اليومية. وبقي وزير المياه نحو شهرين يتحدى الرغبة الملكية وحاجة الصحافيين للحصول على معلومات عن مشروع الديسي والموسم المطري في الأردن.
وطالبت خلال ذلك رئيس الوزراء أن يتدخل لجعل وزيره يزود الصحافة بالمعلومات التي تنأى بها عن تداول الإشاعات، ولكن من دون جدوى، حتى راقت نفسية الوزير أخيرا ومنّ على زميلتنا إيمان الفارس بتصريح موجز مقتضب!
وقبل ذلك وبعده نشرنا صور آرمات خلعها شبان عن أحد الشوارع في منطقة تلاع العلي بالقرب من وزارة الثقافة، ووضعوا الآرمات تحت عجلات سياراتهم وراحوا يشحطون و"يخمّسون" حتى تطاير الشرر من عجلاتهم فأفزع الأهالي. وطالبنا أمانة عمان ومديرية الأمن العام أن تتدخلا أو تسألا عن هؤلاء الشبان الذين نحتفظ بأرقام سياراتهم، ولكن لا مجيب، وكأن في آذان المسؤولين في هاتين المؤسستين طيناً وعجيناً.
وجاءنا أحد المستثمرين في منطقة ضاحية الرشيد يشكو الخطر الذي يتهدد عمارته والسكان الآمنين المجاورين، لأن منعطفاً أعمى لا يراه السائقون تسبب بنحو عشرة حوادث تهدّم على إثرها سور عمارة ذلك المستثمر غير مرة، فصوّرنا المنطقة وكتبنا عنها، ولكن أمانة عمان ظلت عن ذلك ساهية لاهية، وكأنها تنتظر أن تحدث كارثة يذهب فيها عشرات الضحايا حتى تحرك آلياتها ومهندسيها!
وكتبنا ويا ما كتبنا عن عصابات سرقة السيارات التي أفزعت المجتمع الأردني وماتزال، وقلنا إن عدم التحرك الجدي لمواجهتها ينبئ بعواقب وخيمة. فماذا كان رد الأمن العام؟ بيان خجول ووعد بـ"ملاحقة كل من تسول له نفسه الخروج على القانون". ومع ذلك مايزال الخارجون على القانون يصولون ويجولون، ومايزال الأمن عاجزاً عن استئصال شأفتهم وطمأنة قوافل المرعوبين من الأردنيين بسبب هذه الظاهرة الغريبة والعجيبة والمريبة.
ونسأل لماذا لم يبحث مجلس الوزراء في هذا الأمر المرعب، أم أنه لم يسمع به. أم أن عذابات الناس الذين سُرقت سياراتهم وتعرضوا للابتزاز هي مجرد ترف لا يتعين الوقوف عنده والانشغال بترهاته.
"لا تندهي ما في حدا". هل هذا ما يريد المسؤولون أن نردده كالببغاوات؟
لا، وألف لا. سنبقى ننده ونصرخ ونطالب أن يرتقي المسؤولون بمهماتهم الوظيفية والأخلاقية والإنسانية.
وسنظل، بلا كلل أو ملل، نطرق جدران الخزان بقبضاتنا العارية وقلوبنا المدججة بالحق.
m.barhouma@alghad.jo