قبل مئة عام بصق وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور في وجه التاريخ العربي وضرب بحذائه كل مواثيق وأعراف وأخلاق الدبلوماسية والسياسة وحقوق الإنسان، حين أعلن عن قطع قلب العالم العربي في فلسطين ومنحه لليهود الصهاينة ليكون وطنا قوميا لشتات اليهود في العالم، حينها لم تكن فلسطين مستعمرة إنجليزية حتى ولم تخرج منها الجيوش العثمانية، وكان وعد بلفور لروتشيلد بشرى كولونيالية إستعمارية للتخلص من قمامة الصهيونية وتصديرها الى أرض العرب وهذا حسبما يضمره قادة الغرب آنذاك للجماعات اليهودية التي أذاقتهم صنوف التآمر والتحايل، ومقاومتها للإندماج في مجتمعات أوروبا، والخشية من تضرر مصالح أثرياء اليهود عند الحكومات.
منذ ذلك اليوم وحتى اليوم لم يحترم العالم الغربي الرسمي أي دولة عربية أو أي تصنيف إسلامي إلا من يسير خلف ذيلهم ويدين بدينهم السياسي وياتمر بأمرهم، ولا يحترمونهم أيضا، بل هي مجرد بروتوكولات شكلية تضفي على قواعد السيطرة شيئا من الرفاهية الدبلوماسية، فكل بلادنا وطئتها جيوش أوروبا وأميركا واستعمرتها ووضعتها تحت الإنتداب ومن خرج متأخرا إحتضنته بالرعاية المصلحية وقيدته بالإتفاقيات المُحكمّة ومن كان فقيرا أغرقته بالديون، ثم أشعلت نيران الخلاف والتفرقة بينهم، ثم أججت الصراعات حولنا ثم فتحت مخازن الأسلحة لهم ليقتلوا بعضهم وكل ذلك بأموال العرب ونفطهم، وانقيادهم الذليل أمام مراكز صنع السياسات العالمية في قلب أوروبا.
لذلك لا يستغرب أحد بعد مئة عام أن تخرج رئيسة وزراء بريطانيا «تريزا ماي» لتحتفل قبل وأثناء وبعد العيد المائة لولادة وعد بلفور الذي أسس لجمهورية الإرهاب الصهيونية، حيث زوروا التاريخ وسرقوا الأوطان ودمروا مستقبل شعب كان حاضنة لكل أديان العالم وأعراقهم، ويعود وزير الخارجية البريطاني عام 2017 ليؤكد ما بشر به بلفور قبل مئة سنة عجفاء، ويعلن فخره كحكومة بريطانيا العظمى بأن صنعوا دولة مارقة على أرض عربية ليست من حقهم، وهي دولة سارقة ليس لها أساس ولا سند إلا في قواميس العالم الخفي الذي قرر يوما ما أن يتخلص من شرور اليهود الصهاينة ويقذف بهم الى نار العرب ليقتلوا ويقتلوا، قبل أن تصبح دولتهم هي المركز الأهم لصنع القرار.
إن هذه الذكرى لا تنفع العرب بشيء، ولا شتائمنا ولا أحزاننا، فنحن نعلم أن أي دولة عربية عظمى أعجز اليوم من أن تعتقل إسرائيليا واحدا، وأعجز من أن يطلق جندي مضطرب رصاصة واحدة تجاه خارطة إسرائيل، ونحن نعلم أن من يريد أن يتسلق المناصب العليا ويحوز على رضى العالم العلوي والسفلي ويصول ويجول بجهالته وضعفه وفساده في ميادين الوزارات والحكومات عليه أن يكون عميلا للدوائر الإسرائيلية أو مرضيا عنه من أجهوتها، وهذا ليس إنتقادا لدولة إسرائيل التي بناها عمالقة اليهود وأغنيائهم، بل إنه إعتراف بأنهم تفوقوا علينا، لأننا لا نزال قبيلة غبية تائهة في صحراء التخلف والتآمر على أنفسنا، وهذا لم يعد سرّا فالعالم كله يعرف أننا كذلك وأكثر.
مئة عام مضت والعرب لم ينهضوا بعد، ولن ينهضوا ما دامت العقلية الحربجية تتحكم في مراكز الحكم المتفردّ، ولولا التكنولوجيا العالمية لبقينا حتى اليوم نسكن بيوت الشَعر وننثر قوافي الشِعر على جدائل النساء اللاتي لا زلن ناقصات بنظرنا في كل شيء، ولا زلنا لا نفرق بين مسيحي عربي ومسلم عربي ولا شامي ولا يمني ولا بدوي ولا حضري، ولكنه التحضر الزائف الذي تورطنا فيه ولم نعد نستطيع الإستشفاء منه، وفوق كل ذلك نريد أن نحارب أميركا وأوروبا ولكن ليس في الصيف، فهو موسم هجرة أموالنا وعيالنا الى هناك، ومع هذا لا يزال العالم المتحضر يحتقرنا للعلم، مع وعد بلفور أو بدونه.
إن وعد بلفور كان مؤامرة دولية على أرض العرب وعلى مستقبلهم، وهو ليس جريمة بحق فلسطين وحدها، بل إنه كان ضربة قاتلة لمشروع المملكة العربية العظمى التي إنطلق الشريف الحسين بن علي مناديا بها قبل ذلك بعام، ولكن للأسف وحتى اليوم لم نتعلم من أخطاء التاريخ، ونعود لنلدغ مئة مرة في مئة عام ولا نتعلم أن لا سيادة لنا إن لم يكن قرارنا بأيدينا، فها هو الشعب الفلسطيني يعاني من أكبر جريمة إرتكبت بحق الشعوب، ومع هذا لا يمكن أن يتعلم هو أيضا.
الراي