أطفال عراقيون :مرارة اللجوء و لا "جحيم" العودة
04-11-2017 01:48 PM
عمون - آزاد عثمان - أطفال مسيحيون متفاوتو العمر يصطفون رتلا مستقيما في ساحة المدرسة، بزيّهم الموحد بالأبيض والأحمر. يردّدون مع "الأب خليل" دعاء باللغّة السريانية، ثم يتقاطرون إلى صفوفهم بخط مستقيم، في مشهد يندر وجوده في مدارس العراق الرسمية.
أسر هؤلاء الأطفال المسيحية لجأت إلى هذا الدير والمدرسة التابعة له "لاتين ماركا"، في أحد أحياء عمّان الشرقية المكتظة بالسكان، بعد أن فرّت تباعا أثناء غزوات (داعش) لمناطقها شمال العراق بدءا من خريف 2014.
افتتح الجناح المخصص لأطفال اللاجئين العراقيين سنة 2015، داخل حرم هذه المدرسة العتيقة التي تأسست سنة 1963. بخلاف نظرائهم الأردنيين، يلتحق أطفال العراق في هذا الجناح دون رسوم مدرسية، كما يحصلون على وجبات يومية ومواصلات مجانية. تضم هذه المدرسة 600 طفل، وفق فترتين صباحية ومسائية، على غرار المدارس الحكومية.
راعي دير ماركا، الأب خليل جعار، وهو أردني من أصول فلسطينية، افتتح هذا الجناح للطلاب العراقيين – مسلمين، مسيحيين وصابئة مندائيين. ويستقبل الجناح أيضا أطفالا سوريين، فرّت عائلاتهم من أتون الحرب المشتعلة هناك منذ 2011.
معد هذا التقرير جال في المدرسة مساء الاثنين، خلال دوام الأطفال المسيحيين الذين يعدّون 200 طفل، موزعين على ثمانية صفوف مدرسية.
بوجهه البشوش وهدوئه الملفت، يشير الأب خليل إلى أن "التعليم حق أساسي للطفل لا يقبل مناقشة. لكن عديد أطفال عراقيين حرموا من هذا الحق".
يعمل المدرسة 20 موظفا - بين معلمين وكوادر إدارية ولوجستية. مديرة المدرسة سناء بكي (عراقية) تشرح بأن مدرستهم جاءت نتاج عمل تطوعي بقصد عدم حرمان الأطفال من التعليم.
رغم أن بكي من أبوين عراقيين فإنها لم تعش في العراق بعد أن هاجرت عائلتها إلى بريطانيا. بيد أنها لم تنس جذورها العراقية، ولذا تكفّلت بإدارة هذه المدرسة.
في المملكة الأردنية، ينتشر قرابة 59 ألف لاجئ عراقي، بحسب أحصائيات الأمم المتحدة، موزعين على عدة مناطق، لكن 89 % منهم يقطنون العاصمة، حتى أن بعض أحياءها نسبت إلى مناطق في بغداد، بسبب كثافتهم السكانية فيها.
أما اللاجئون، فلا يتلقون أي مساعدة من الحكومة العراقية أو الأمم المتحدة. ولا تسمح القوانين الأردنية لهم بالعمل، وبالتالي فهم يعيشون في أوضاع حياتية صعبة.
موجات اللجوء العراقي تتواصل منذ ربع قرن، عقب حرب الخليج الثاني (1990-1991). منذ الغزو الأمريكي للعراق ربيع 2003، تكثّفت أفواج اللاجئين من العراق إما بهدف الاستقرار أو اتخاذ الأردن نقطة عبور في انتظار لجوء إلى دولة ثالثة.
في غياب اهتمام الأمم متحدة والحكومتين العراقية والأردنية بتعليم أطفال اللاجئين، فكّر رجل الدين المسيحي في تجهيز مدرسة لهم. يقول الأب الجعار: "60 % من تمويل المدرسة يأتي من تبرعات جاليات مسيحية في أوروبا وأمريكا. وتأتي البقية عن طريق أشخاص خيرين".
ويبدو أن تمويل المدرسة يستثمر على نحو مثمر، ذلك أن جميع الطلاب الذين تكلمنا معهم، عبّروا عن رضاهم عن المدرسة ومحبتهم لها.
ماتياس عدنان، 13 سنة، طالب في صف الثامن، يبدي سروره في هذه المدرسة، ويتحدث عن مساعدة المعلمين للطلبة بشكل مستمر.
رايفين هاني، 12 سنة، طالب آخر يفضّل مدرسته الحالية على ما كان عندهم في ناحية برطلة شرق الموصل، لأنه "لا يوجد فيها عنف وضرب على يد المعلمين".
الطلاب التي تكلمنا معهم، يتوافقون حول شيئين: حبهم لمدرستهم و كوادرها، وعدم رغبتهم في رجوع الى العراق.
ولدى سؤالهم عن السبب، يجيبون بكلمة واحدة: أمان. فهم يستذكرون حياتهم في العراق، وخوفهم الدائم هناك من التعرض للقتل أو الاختطاف بسبب أنتمائهم الديني. ورغم سوء أوضاعهم المعيشية في الأردن، فإنهم يفضلونه على العراق.
"أبونا خليل" كما يناديه الجميع، يستذكر حال الخوف التي سيطرت على طلاب في بدايات تأسيس المدرسة نتيجة عيشهم في العراق في ظل أصوات الأنفجارات و قصف الطائرات. "في يوم ما في البدء، سمع الأطفال صوت طائرة تحلّق في سماء المنطقة، فارتبكوا بسببها وحطّوا أنفسهم تحت الكراسي". بعد ذلك أدرك القائمون على المدرسة "بأن صوت الطائرة يذكرهم بالقصف والحرب، لذا لكي نهديء من خوفهم اصطحبناهم إلى مطار ماركا (المجاور) وهنا شاهدوا طائرات. و قلت لهم: ليس بالضرورة أن كل طيارة تقصف".
البيئة التعليمية والتربية في مدرسة ماركا تختلف عن مدارس العراق، بخاصة لجهة اللغة، إذ تشكّل اللغة الأنجليزية حيزا كبيرا في المنهاج.
مديرة المدرسة توضح بأن تعليم اللغة الأنجليزية يساعد الأطفال حين ينتقلون للعيش في دول غربية، لكي يندمجون بشكل أسرع.
ولدى سؤالها: "هل أسر الطلاب جميعا لا تريد العودة بل ترغب في الانتقال إلى الغرب"؟ أومأت السيدة بكي برأسها في ما بدى أن الجواب "قطعاً نعم".
جميع الطلاب الذين قابلهم كاتب هذا التقرير أكدوا جواب المديرة، رغم أنهم لم يستطيعوا إخفاء حنينهم إلى بلدهم وكنائسهم بشكل خاص. وكان من بينهم طفل باسم ليث خالد، 13 سنة من بغداد، لم يخف اشتياقه "للصمّون (الخبز) والكيمر العراقي (القشطة)".
أثناء تجوالنا داخل المدرسة، رأينا أحد الطلاب يضع على ذراعه إشارة تشبه شارة كابتن في مباراة كرة القدم. تشرح المديرة بأن هذا الطفل انتخب في اقتراع ديمقراطي لكي يكون ممثل الصف خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني.
عن هذه التجربة، تضيف (بكي) باللهجة العراقية: "خللي جيل جديد يعرف شنو صح".
لدى خروجي من المدرسة، رأيت زوجين أشوريين من العراق بأطقم العرس يدخلون قاعة مراسم الزواج في كنيسة الدير. حتى في هذه الظروف الصعبة، لم يفقد العراقيون الأمل بمستقبل أفضل، وأرادوا إقامة مراسم زواجهم وفق طقوسهم التقليدية. حينها تذكّرت قول الأب خليل جعار عن العراقيين: "يا حيف على بلد يفقد كل هؤلاء الأناس الرائعين والقدرات القيّمة".