نشر وزير خارجية بريطانيا في التاسع والعشرين من الشهر الماضي مقالا في صحيفة ديلي تيليغراف يمكن اعتباره إعلانا تكميليا لإعلان بلفور الكارثي يضع فيه بوريس جونسون النقاط على الحروف فيما يتعلق بالتباسات خطيرة توشحت بها بعض عبارات الاعلان البلفوري بما تضمنته من مصطلحات دخلت لأول مرة معمعة القوانين الدولية، ومن هذه المصطلحات: "National home" الذي جاء في سياق العبارة التالية: "National home for Jewish people".
ولعلني لا أغالي إذا ما اعتبرت أن اعلان بوريس جونسون وضع حدا نهائيا للجدل الدائر حول المعنى الذي يرمي اليه المصطلح سالف الذكر من خلال طرح رؤيته لكيفية إمكانية إنهاء الصراع بين الفلسطينيين والعدو الصهيوني الذي اشتعلت نيرانه بعود ثقاب (67) كلمة جاءت في جملة واحدة شكلت جوهر اعلان بلفور اللعين؛ إذ يرى أن الحل الوحيد القابل للتطبيق هو قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967.
وهذه الدعوة الى قيام دولة فلسطينية ليست من بنات أفكاره كما يقول جونسون بنفسه بل هو إعادة طرح للاقتراح الذي تقدم به اللورد بييل عام 1937.
وهو يلفت النظر من خلال مقاله الى أن هناك جزءا من اعلان بلفور المشؤوم لم يتم تنفيذه بعد، ويدعو الى أنه آن الأوان لتنفيذ ما لم يتم تنفيذه في الاعلان اياه.
وتجدر الاشارة هنا إلى أن دعوة جونسون الى ضرورة قيام دولة فلسطينية ليسن تعاطفا مع الفلسطينيين كما قد يظن البعض للوهلة الأولى، بل لأن ذلك من مصلحة العدو الصهيوني! فهو يرى أن قيام مثل هذه الدولة هي "الطريقة الوحيدة" لضمان أمن التركيبة الديموغرافية للعدو الصهيوني ك "دولة يهودية" ديموقراطية! لا بل ذهب إلى أبعد من ذلك بقوله بحتمية وضرورة وجود ترتيبات أمنية تضمن بشكل قاطع عدم تعرض العدو الصهيوني لأي هجمات إرهابية أو حتى عدم السماح بتوفير أية بيئة مجاورة له قد تهدد أمنه واستقراره!
يدعو جونسون إلى اعتبار القدس عاصمة مشتركة للدولة الفلسطينية المقترح إقامتها وللعدو الصهيوني بما يضمن ذلك السماح لكل من اليهود والمسيحيين والمسلمين بإقامة شعائرهم الخاصة بمعتقدات كل منهم بدون اية قيود أو عوائق. وهو هنا بلا شك لا يتفق إطلاقا مع العدو الصهيوني باعتبار القدس بشطريها الشرقي والغربي عاصمة أبدية لكيانه المغتصب للأرض العربية من النهر الى البحر.
وطالب جونسون بمكر ودهاء بحل مسألة اللاجئين الفلسطينيين بشكل يتوافق مع التركيبة السكانية الحالية لفلسطين، بحيث يضمن الحل عدم التفوق العددي للفلسطينيين على عدد اليهود المتواجدين حاليا داخل الأراضي العربية المغتصبة منذ عامي 1948 و1967. يتضح ذلك من مطالبته بضرورة توفير تعويض سخي لللاجئين الفلسطينيين.
إن توقيت نشر هذا المقال ليس صدفة برأيي الشخصي، وهل هناك "صدفة" في قاموس السياسة البريطانية؟
فالمقال من جهة رسالة واضحة إلى رئيس وزراء العدو الصهيوني بأن الرؤية البريطانية للسلام تقوم على أساس قيام دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة غير منقوصة قيد أنملة على حدود الرابع من حزيران عام 1967، مما يعني أن بريطانيا ترفض فكرة الوطن البديل الذي تتغنى به أوساط اليمين الصهيوني المتطرف من خلال المؤتمرات والندوات التي يقيمها بين الفينة والأخرى، وآخرها ما سمي بمؤتمر "الخيار الأردني".
وهو من جهة أخرى جاء في توقيت استبق فيه الاحتفالات المزمع إقامتها اليوم في لندن بمناسبة مرور مائة عام على إعلان بلفور المشؤوم ليذكر الجميع بضرورة التحرك سريعا من أجل إحلال السلام في "الأراضي المقدسة" كما أشار إليها في مقاله، وإلا قد يحدث ما لا يحمد عقباه إذا ما أستمر الصهاينة بالضرب عل وتر "الوطن البديل".
أخيرا وليس آخرا يلمح جونسون من خلال مقاله بطريقة غير مباشرة إلى أنه يأسف نوعا ما على ما تسبب به إعلان سلفه الأسبق بلفور من تأثيرات سيئة وتداعيات سلبية على الشعب الفلسطيني؛ فهل يمكن اعتبار مقاله هذا اعتذارا غير مباشر من بريطانيا للفلسطينيين؟
ربما من الممكن اعتباره كذلك، وربما لا يمكن اعتباره كذلك، لكن على الأقل يبدو أن هناك شعورا بالأسف في الخارجية البريطانية حاليا على النتائج الوخيمة التي ترتبت على حياة الشعب الفلسطيني نتيجة اعلان بلفور المأساوي.