"النبيذة" لانعام كجه جي .. فلسطين تطل برأسها في رواية
31-10-2017 11:25 AM
عمون - بديعة زيدان - "في منتصف آب من سنة تسع وعشرين، مع احتفال المسلمين بالمولد النبوي، وصل عشرات اليهود وهم يصيحون: الحائط لنا. مسيرة رتبتها حركة بيتار، يوم الحداد على خراب هيكل سليمان. ردّ عليهم العرب بمسيرة اتجهت نحو حائط البراق، وخطب فيها الشيخ حسن أبو السعود. بدأ الطاخ والطيخ من يومها ولم يتوقف. نشأ الطفل على إيقاع الرصاص. كبر وشبّ والخلاف قائم. سافر إلى لندن للدراسة، وعاد والأمر كما هو بل أسوأ. تاريخ فقير الخيال، يكرر نفسه ولا يمل. يحمل الصرّة الثقيلة ويعبر بها السنوات. يهترئ القماش وتخبو التطريزات. ينقلها من قرن إلى قرن. يذهب بها إلى الجامعة العربية، الأمم المتحدة، مجلس الأمن، كامب ديفيد، البرلمان الأوروبي، الكيلو 101، طابا، وادي عربة، جنيف، مدريد، أوسلو. حول العالم في مئة عام. نفق بلا ضوء. لا يدري منصور البادي كيف سيشرح هذه المتاهة، وماذا يكتب لشباب وبنات يبتعدون عن النكبة. يولدون في جهات الأرض، ويسمعون من آبائهم أنهم فلسطينيون. لا يعرفون فلسطين. كم تمنى لو يكون له حفيد مقدسي، يعود ليفتح البيت القديم. أي بيت؟ .. تحزن بناته حين تدمع عيناه كلما سمع تلك الأغنية. لا يفهمن كلام فيروز وهي تصلي لزهرة المدائن".
تعرفت تاج الملوك (تاجي عبد المجيد)، إيرانية الأصل، منذ انتقلت من بغداد إلى باكستان للعمل في إذاعة كراتشي، إلى العديد من الرجال، لكن الفلسطيني منصور البادي كان هو الوحيد الذي استطاع من بينهم انتزاع قلبها، فبات معشوقها .. كان يصغرها بعدة سنوات، إلا أن شخصيته الطاغية بما يحفظ من شعر، وبأدائه المميز في ذات الإذاعة جعلته أكبر في عينيها.
عبر شخصية البادي، تسلط الروائية العراقية انعام كجه جي، في روايتها الجديدة "النبيذة" الصادرة عن دار الجديد في بيروت، الضوء، على حكايات فلسطينية منذ النكبة، وما قبلها، عبر الحديث عن بادي الفلسطيني المقدسي الذي عاش سنين طويلة على إيقاع الرصاص، قبل أن يلجأ ووالدته في العام 1948 إلى حيث جذورها، إلى لبنان، ومن ثم يقرر السفر إلى بغداد ومنها، بعد وقت ليس بطويل، إلى باكستان.
في الفصل الأول من الرواية تظهر لنا تاج الملوك مسنة تقضي أيامها الأخيرة في أحد مشافي العاصمة الفرنسية باريس، تسير متعكزة على عصاها، تتجاور في الغرفة مع أحد ضحاياها المفترضين، صدفة، ألا وهو الرئيس الجزائري السابق أحمد بن بلة واسمه الحركي "مزياني مسعود"، وبات يرقد مريضاً في ذات المستشفى .. كان أحد أهدافها يوما ما، حيث كان من المفترض أن تقتله بناء على طلب جهة كانت تعمل لصالحها (المخابرات الفرنسية)، إلا أنها غيرت رأيها ولم تفعل من باب التعاطف، هي التي لقوة شخصيتها وذكائها كانت مقربة من الساسة في العراق، وخاصة رئيس الوزراء في فترة الحكم الملكي، نوري باشا السعيد.
وفي رحلة عبر الزمن، ذهاباً وإياباً لا على الترتيب، تبدو تاج الملوك امرأة في العشرينيات من عمرها، شرقية لها حرية رجل، حضرت إلى بغداد مع أمها صغيرة وعاشت معها وزوجها عبد المجيد الذي منحها اسمه، لكنها رفضت الخنوع له وتمردت عليه وعلى الأعراف، ما ساعدها في الانتقال للعمل في بيت طبيبة إيرانية في عمل أقرب إلى السكرتاريا بالمفهوم الحديث.
هناك صادف أن أعجب بها شقيق الطبيبة، ويعمل صحافياً، فعلمها الكتابة وأصول العمل الصحافي، وسرعان ما شقت طريقها في عالم الصحافة، لكونها باتت أول امرأة تعمل في هذا المجال.
ساعدها ذلك على التقرب من رجال ذوي نفوذ سياسي واقتصادي كبير، أبرزهم، كما أشرت، نوري السعيد، الذي تتلمذت على يديه، فكان معلمها الأهم في السياسة والصحافة أيضاً، بل وفر لها أخباراً حصرية لمجلتها "الرحاب" التي صدر عددها الأول في بغداد العام 1946، إلا أن ذلك لم يمنعها من النزول إلى الشارع مع المتظاهرين ضد القصر في العام 1948 رفضا منها لمعاهدة "بورتسموث"، قبل أن تتزوج بضابط مخابرات فرنسي يدفعها للعمل معه كجاسوسة لصالح مخابرات بلاده إبان الثورة الجزائرية.
ابتعدت انعام كجه جي عن تقسيم الرواية إلى فصول كما جرت العادة في غالبية روايات الآخرين، وجعلت من الأرقام ما بين واحد إلى ثلاثة وأربعين، فواصل بين صفحاتها، تتناوب فيها زمانيا ومكانيا، حيث تحكي لنا قصة الصحافية تاج الملوك على امتداد ما يقارب الثمانين عاماً، في أحداث تتنقل ما بين بغداد وباكستان وباريس وفنزويلا بشكل أساسي، بلغة سردية أخاذة، وأسلوب محفز على الاستمرار في القراءة حتى الصفحة الأخيرة، لفرط حالة التشويق التي تنتقل من فقرة لأخرى، ومن صفحة إلى تالية، وللإبداع اللغوي المتمثل في الصور المجازية والتشبيهات البلاغية اللافتة.
وكما أشرت، تحضر فلسطين موضوعاً وجغرافيا بشكل لافت في "النبيذة"، ولفتني ذلك المقطع الذي يتحدث عن شيء من المأساة الفلسطينية عبر "منصور البادي" .. "لا ينسى ذلك اليوم الذي هزه وكاد يشل ساقيه. كان يمرّ فيه أمام مخمر للموز حين سمع الراديو داخل المحل، يعلن قبول إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة. استند إلى الجدار خشية السقوط. والشمس التي كانت تضرب رأسه صارت لها قبضات إضافية. عاد إلى غرفته، وجلس ليكتب مقالاً حول الموضوع".
والرواية ليست فلسطين فحسب، بل تتناول تاريخ عراق، تنكر في زي امرأة، ما بين ملكية وجمهوريات متعاقبة، من بينها حقبة حكم صدام حسين، عبر شخصية صديقتها وديان التي تصغرها بضعف العمر، فعبر ثلاث شخصيات: امرأتين ورجل، لكل منهم صوته وقصته الخاصة، تجتمع في "النبيذة" تناقضات عدة حيث الشعر والجاسوسية والحب والسياسة، وغيرها .. أبرز الثلاث هي تاج الملوك (تاجي) التي تبدو "بذاكرة فيل لا تنسى اسماً ولا تاريخاً ولا بيت شعر"، هي العاشقة التي لم تمت ولا منصور البادي، وكأن الروائية تتمنى أن لا تموت عراق الانفتاح والأصالة، ولا فلسطين الثورة والمقاومة.
وقالت الروائية أنعام كجه جي: "النبيذة" كانت فرصة لأن أقترب من فلسطين بشكل حميم، وليس من خلال المتابعة والانفعال الوطني فحسب. فقد احتجت لكي أكتبها إلى شهادات حية لمن عاشوا أيام النكبة. وقد تفضل عليّ أحدهم بمذكرات ثمينة كانت عوناً لي في بناء كثير من الفصول. هذا الصديق الكبير والكريم فلسطيني مغترب منذ عقود بعيدة، مثل بطل الرواية، وكان يسجل تاريخ عائلته باللغة الانكليزية على أمل أن يحفظه لأحفاده، ولما طلبت منه المساعدة وجدها فرصة لكي تصل حكايته إلى دائرة أوسع. أما بطلة الرواية التي تكرمت عليّ بكل أرشيفها، فقد افتكرها ربنا، كما يقول أحبابنا في مصر، ورحلت عن ٩٥ عاماً، بعد أيام من تسلمها النسخة الأولى التي وصلتني من الرواية، أي أنها احتضنت الكتاب وأسلمت الروح، كما عرفت من ابنتها، مضيفة في رد على سؤال لـ"أيام الثقافة" حول تقاطع الرواية مع السيرة الذاتية لكاتبتها: هذا هو الفخ الذي أجتهد لأنصبه لمن يقرأ رواياتي .. إن حياة كل منا هي ذرّات غبار تتجمع من خيال ووقائع.
عن الايام.