وصفي حين يشعر بالمرارة كيف يسجن الناس في تهمة سبه وشتمه ..
الدكتور موسى الرحامنة
29-10-2017 02:17 AM
تحت هذا العنوان تتمترس تفاصيلُ رجولةِ مسؤولٍ عزّ نظيرها، وثقة بالنفس لا تُجارى، وعنفوان رجل دولة يوم كان في الدولة رجال، قبلوا بالسلطة وأقبلوا عليها، على قاعدة المساءلة الأخلاقية قبل القانونية، وتحت هذا العنوان يتذكر الأردنيون مناقب الفرسان، الذين لا يلتفتون الى صغائر الأمور وسفاسفها، هذه كانت مقولة وصفي التي كتبها على ورقة وأعطاها لأحد الآباء الذي جاءه مشتكياً بأن الشرطة قد سجنت ابنه لأنه سبَّ وصفي، فكتب على هذه الورقة خطاباً للشرطة، دوَّنَ فيه عبارته الشهيرة وهو يستشيط غضباً " يلعن أبو وصفي اللي تسجنوا الناس عشانه " .
اليوم، ما أحوجنا الى استرجاع نماذج الرجال، الذين استقروا في الذاكرة والوجدان، بعد أن جرَّدت حكومات اليوم سيف الحياء، وحلفت أن لا تعيده الى نصله الا بعد أن تقطع كل لسانٍ يُعيبها ويُعيب أزلامَها، فشرعنت قانوناً أقل ما يمكن أن يوصف به، أنه عودة لتكميم الأفواه، ووأد لحرية التعبير والرأي، في وقت تتشدق به في الحديث عن حريات سقفها السماء، فأيُّ سماء وأيَّة حريات هذه التي تجعل كثيراً من المسؤولين الحكوميين يضيقون ذرعاً بكلمة .
لقد شكّلت وسائل التواصل الاجتماعي، نوعاً من الرقابة الشعبية على الممارسات الحكومية والرسمية، وفضحت كثيراً من المسلكيات الادارية، وشكّلت قلقاً لكثير من ضعاف المسؤولين الذين جاءوا الى الكرسي على قاعدة غانِم غير مُغرَم .
ان السياسات الحكومية الراهنة، ترفض الرقابة الشعبية التي أسَّست لها هذه الوسائل، وترى فيها عقبة كؤود تقف في وجه شهواتها واغراقها في ذاتها، فهي؛ أيْ الحكومات، نجحت وبشكل فائق في تدجين مجالس النواب المتعاقبة، بوصفات مختلفة، ولكنها وقد أعياها هذا الدُمّل، فقد سَعَت حثيثاً لسد النوافذ، ونصب الكمائن للحروف والكلمات، وما علمت أنّ من أبسط الحقوق الدستورية للمواطن الأردني حقه في مخاطبة السلطات العامة، فيما ينوبه من أمور شخصية، وكأن كل الذي يجري من فساد في الأوساط الرسمية في الدولة، وعلى مختلف الصُعد والمستويات، هو أمر ينبغي أن لا يَحشُرَ المواطن أنفه فيه .
نموذج وصفي وصحبه، حالة أردنية أضحت غير قابلة للتكرار ، فان كان وصفي وهو الحالة الانسانية التي تقدَّس ذكرها في وجدان الأردنيين، لم تكن في منأى عن النقد والسب، وهو الذي ما باع ولا اشترى، ومات مديناً لبنوك وأشخاص، ولم يترك خلفه عقاراً ولا شركة، وكانت أبواب بيته مشرعة لكل الأردنيين، كما هي أبواب الحكومة التي كان يرأسها، لأنه فهم المسؤولية على أنها شرف خدمة الناس، وأن الشريف القوي هو الذي يأخذها بحقها ويؤدي الذي عليه فيها، فيما فهمها اللاحقون الذين لن يتمكنوا من اللحاق بركبه، على أنها سلطة وكبرياء، وفرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، فأكلوا أموال الشعب بينهم بالباطل، وتركوه يبيت على الطوى.
حكومات تتخبط، ووطنٌ وَسطَ بَحرٍ لُجِّيْ، وعمّان ستصبح عما قريب اثنتين، وهي أصلاً اثنتان لأن الغَرابى فيها، لا شأن لهم بالوطن الا جواز سفر يرتحلون ويحلون به؛ فهل سيعنيهم الرغيف و "جركن الكاز"، وشَراقى يتزاحمون بِعزِّ البرد على المخابز ومحطات الوقود، فعمّان أيّها الفتى العمّاني المبدع، منذ زمن طويل وهي غربيّة وشرقيّة، هكذا قسّمتها سياسة من لا يخاف الله في توزيع مكاسب الوطن ومقدراته .
ان الحرب التي تعد الحكومة لها عدتها في الاجهاز على حرية الكلمة، سوف لن تجني من ورائها سوى بذور فنائها والاطاحة بها، وهي تتناقض مع كثير من المفاهيم التي أغرق الاعلام الرسمي في الترويج لها، مثل الدولة المدنية، والديمقراطية، وكثير من المبادرات التي لا تُعد ولا تُحصى، والتي عنوانها المواطن وحقوقه وحرياته، ليكتشف المواطن فيما بعد أنها مَحضُ حَملٍ كاذب .
تقتضي مروءة المسؤولية، أن يتحمل المسؤول النقد مهما علا سقف هذا النقد، وان مسؤولاً ليس بمقدوره هذا فَحَريُ به أن يغادر موقعه، فمن حق الناس حين ترى مسؤولاً تطاول في بنيان العمارات والشركات والمؤسسات وشراء الاراضي وما شاكل، أنْ تتساءلَ عبر أيّ فضاء كان، من أين لك هذا ؟ لا سيما إذا كانت بداية هذا المسؤول متواضعةً جداً، ونحن نعلم أنَّ أيَّ مسؤول حكومي، ممنوعٌ عليه ممارسة التجارة والأعمال الحرة، والتي يُفترض أنها لا تستقيم والعمل الرسمي، ولعلَّ هذا يصب في باب الاثراء بلا سبب، ويشكل شبهة فساد تسترعي التوقف والتحقيق والاستجواب .
أخيراً، لا يخشى الكلمة الا ضعيف، وأضعف الأيمان محاولة تغيير المنكر بالكلمة، ورحم الله وصفي وكل رفاقه الطيبين الذين كانوا ملاذاً للناس، وصدراً عامراً بمحبة الوطن فما خذلوه.