أحاديث لا تنقصها الصراحة
كتب أديب العربية الأكبر ، صاحب " وحي القلم " و " تاريخ آداب العرب" الأستاذ مصطفى صادق الرافعي عدة مقالات في مجلة " الرسالة المعروفة ، منتصف الثلاثينيات من القرن المنصرم ، تحت عنوان "صعاليك الصحافة" وقد أثارت هذه المقالات، في حينه، جدلاً واهتماماً كبيرين، لما تشتمل عليه من رؤية ناقدة لواقع الصحافة في مصر آنذاك.
وصعاليك الصحافة في كل أوان هم غير مترفيها وأولاد الدلال فيها، وللصعلوك في لغة العرب معنى يختلف عّما قد يذهب إليه مفهومنا السائد من زراية وتبخيس، وحسبنا قول الشاعر
و لله صعلوك صفيحة وجهه كضوء شهاب القابس المتنور
وحسبنا كذلك أن يضع الرافعي الجاحظ العظيم، صاحب "البيان والتبين" في زمرة صعاليك الصحافة، وأن يضع على لسانه نقده الساخر لأوضاعها.
ولقد غبر على صاحب هذه السطور عهد اعتبر نفسه واحداً من صعاليك الصحافة في الأردن، الذين يحملون أعباءها وتكاليفها المعرفية والمعنوية ويسلخون في خدمتها أعمارهم ويفنون نور أبصارهم، ثم يذادون عن النزر القليل من عوائدها، ولا يراعي لهم اعتبار على نحو ما يكون مع السادة المترفين أولاد الدلال.
إذ كيف يعقل أن تقدره صحف مصر المعروفة مثل: "وجهات نظر" و"القاهرة" و"العربي" و"الشعب" أو مجلات عربية معتبرة مثل "التسامح العمانية" و"الآداب" البيروتية و"الأدباء العرب القاهرية"، في حين يلحقه التبخيس (هو وأمثاله) في بلده على نحو تتضاءل معه مكافاته الشهرية أحياناً (على ستة وعشرين مقالاً يمكن صدروها في كتاب مطبوع) الى مئة وسبعين ديناراً، وهو يعلم أن ثمة من يتقاضى في الشهر ألفي دينار أو ثلاثة أو أكثر من ذلك !!
ثم إن هذا الذي يُمَنّ به عليه لا يصل إليه إلا بعد طقوس يضيق بها صدر الحليم، وتذكر بقول أبي العلاء المعري
وحسب الفتى من ذلة العيش أنه يروح بأدني القوت وهو حباء
والمسألة في حقيقتها معنوية اعتبارية لا مادية، إذ لا بد أن يكون لهذه المفارقة أسبابها، ولا بد أن تعود هذه الأسباب الى بنية ذهنية وشعورية هي مربط الفرس كما يقولون، وان يكون لنا في ضوء ذلك ان نتساءل عن أثر اضطراب الموازين في واقع الصحافة في بلادنا، وعما يتأدّى إليه تخسير هذه الموازين من غياب معني "الرسالة الصحفية" أو غياب الشروط الموضوعية لأدائها..
إن شهادتنا الذاتية هنا إذا ضُمت إلى شهادات أخرى كثيرة تحصلت منها ظاهرة تستدعي الاهتمام المباشر من عدة جهات اولها رئاسة الوزراء ثم نقابة الصحفيين ثم وزارة الإعلام، ولقد تصطف في مكافحة هذه الظاهرة جهات أخرى لا نعدم أن تستشعر مسؤوليتها إزاءها.
إن إقامة الموازين القسط في تقييم كتاب الأردن وصحفييه لَهي السبيل الوحيدة لإصلاح ما افسدته الاعتبارات السائدة من حال الصحافة والإعلام جملة في بلد انتهت إليه طلائع نهضة العرب الكبرى في الأزمنة الحديثة، وصار لزاماً على أبنائه المخلصين أن يدفعوا الأذى عن مسار هذه النهضة، ولو كثرت في هذا الأذى الملموس التعلات والمعاذير.
إن للأردن وطناً وإنساناً وتاريخاً ديونا مستحقة الأداء على ابنائه، وأول ذلك اصلاح منابر الرأي فيه ودفع الضعفة وعيا وثقافة واداء عنها وإقامة شؤونها على أصول معرفية وأخلاقية لا على طبائع واعتبارات لا تلبث إن تمادي بها الفساد - أن تهوي بوعينا الوطني في مكان سحيق.