لماذا الجنوب منصة لبياناتهم؟
د.مهند مبيضين
26-10-2017 12:33 AM
نحتاج لحقل علمي وبحث لتفسير إصرار بعض القوى السياسية، أحياناً والناشطين، في الذهاب للجنوب لإطلاق بياناتهم. وقد حاول علماء حقل الأنثربولوجيا تفسير العوامل المشكلة لخطاب الأطرف، والمعروف أن المناطق التي يغطيها الجنوب عندنا تتميز بنمط قرابي وبنية اجتماعية تقليدية، قد توفر شكلاً حمائياً أمام الدولة، وبالتالي رفع السقف في المطالب والخطاب مستنداً إلى الشعور بالأمان في ظلال مفهوم الحمى والديرة والمنطقة أو بسبب طبيعة النمط القرابي.
لا أقول أن ثمة أرضا مستعصية على الدولة، لكن المقاربة الأفضل بأن نتخيل نشاطاً سياسياً ما، ينظم داخل قاعة فندقية في عمان ، وفي المقابل اجتماع سياسي لمجموعة مهما قلّ عددها أو كبر، يُحضر له سُرادق أو خيمة، مع للخيمة من مدلولات، ورمزيات، فلمن تكون السمعة والجلبة والصيت؟ بحكم زحام العاصمة، وبحكم فرادة الأطراف، وغيابها عن التغطية الإعلامية لأزمنة، سيكون أي حدث طرفي اليوم أكثر تأثيراً وحضوراً منه في العاصمة.
النص البياني في الأطراف، يخلو من دلائل الخضوع أو الطاعة، التي تستهدف إقناع المجتمعين بالقانون والدولة، فلا تحيات ولا إشادات بالفضل، بل مباشرة يصعد النقد بالاستهلال، ومخاطبة الشعب وجمهور الأحرار، في صيغة تبدو مفتاحية للكلام، وإطلاق البيانات من خيمة أمراً ليس معيباً، لكنه يولد شهوة في الكلام، ويخلق اعتقاداً بوجوبية رفع السقف، والأمر له صلات عميقة في البنية الذهنية العربية منذ حادثة السقيفة في الإسلام الأول.
هنا نتحاج إلى الاستعانة بعلم الرموز والتصنيف ودلالة اللغة، وهو أمر استعان به علماء الانثربولوجيا، وكذلك نحتاج إلى فهم المتغيرات، التي جعلت الجنوب جاذباً للقوى السياسية بعدما كان شبه مغلق، ويمكن الاستعانة أيضاً بعلم رموز البنية، بدلاً من محتوى الثقافة، لنعرف أي ارتباط حدث وطرأ وساهم في هذا التقارب بين أهل الجنوب أو نشطائهم من السياسيين والغاضبين، مع غيرهم من القادمين من مناطق أخرى.
تُخلق اليوم في ظلال واقعنا، المجموعات الائتلافية، التي تتضامن في الأحداث وتنسج خطابها وتبدو قريبة من بعضها، في حمأة الحدث، وتلتغي المسافات، حدث ذلك في أحداث الرصيفة الأخيرة التي احدثت تعاطفاً بينياً مع المُعتدى عليه، فالتقت العصبة مع المجتمع الخارجي مؤكدة على أخذ الحق ولو بالقوة الضاغطة لقطع دابر المعتدين، وقبل ذلك في أحداث الكرك التي وحدّت الجميع مع المكان والدولة والحكومة، وفي الرمثا ومسألة الاعتداء على أحد الاساتذة والتي أوجدت تضامناً شعبياً ضد عنف الدولة الممارس بدون قصد، ولو استرجعنا التشكل الخطابي في كل الحالات لكتشفنا مدى القدرة على خلق التضامن والائتلاف الشعبي السريع، والذي يظهر أن المجتمع جامح متأثر بالحدث بشكل اسرع بكثير من استجابة الدولة للحلول.
فما يقع من فراغ في المكان أحياناً، ومن أخطاء حكومية، قد تُولد الكثير من حالات التآلف الجمعي، لكن المهم هو كيف يولد هذا التآلف؟ إنه مزيج من إخفاقات فريدة تريد الالتفاف على فكرة الجماعة التقليدية وخلق حالة انتمائية جديدة، وهو ربما يكون نتيجة من نتائج ثقافة الفقر والشعور بالتهميش والإغفال وغيابر العدالة، وقد يكون جموحاً سياسياً في الحضور والتأثير، وذلك ما يحدث في مجتمعنا ولدى اغلب الناشطين.
في المقابل، فإن الذهاب للجنوب منبراً ومجالاً مكانياً وفضاء عاماً، بعيدا عن السيطرة والسلطة، يُبرز حقيقة أخرى مفادها ارتفاع منسوب الغضب والنزعة الراديكالية التي تنمو بشكل أكبر بين الشباب، وكل ذلك يزداد مع تطور التكنولوجيا الاتصالية، وظهور نماذج انتاج جديدة، وعلائق جديدة، عنوانها التحرر من ريعية الدولة واستقلال بعض الأفراد اقتصاديا بمشاريعهم الخاصة.
الدستور