يشكل سقوط عاصمة «الخلافة» الداعشية المزعومة في الرقة (وقبلها الموصل) حدا فاصلا بين حقبة من تاريخ المنطقة إنتهت وطويت صفحتها وحقبة أخرى جديدة توشك على البزوغ والتشكل.
وقد إتسمت المرحلة السابقة بإنتشار ثقافة التطرف والدموية وزرع الخوف وتشويه صورة الإسلام وزيادة منسوب (الإسلاموفوبيا) في العالم. كما تميزت بإختلال شبكة الأمان في العالم وكسر هيبة الحدود وتهديد «النقاء العرقي» المزعوم لكثير من الدول عن طريق موجات الهجرة واللجوء التي ألقت بكثير من البشر البائسين المقتلعين من ديارهم في كل أرجاء المعمورة.
إن الإنتقال إلى مرحلة جديدة لايعني إطلاقا أن كل آثار المرحلة السابقة بخصائصها المميزة ستختفي تماما إذ سيبقى هناك قدر كبير من التداخل بين المرحلتين لعدة شهور أو حتى سنوات قادمة.
ولكن ماهو المطلوب للتعامل مع هذا الواقع الجديد؟
إن أول ماتجدر الإشارة إليه هو ضرورة إستمرار التحفز والإستعداد والتأهب للأخطار الأمنية في الدول المجاورة لسوريا والعراق وعلى رأسها الأردن في المرحلة المقبلة ، فقد كان لافتا للأنظار أن مقاتلي داعش في الرقة ( وقبلها الموصل) قد إختفوا من هذه المدن ولم يعثر الإعداد قليلة من جثثهم في الشوارع. والسؤال الذي يطرح على ألسنة الكثيرين هو: أين ذهب إرهابيو داعش؟ فهل تبخروا في السماء أم إبتلعتهم الأرض؟ وبعيدا عن نظرية المؤامرة التي يفتتن بها العقل العربي ، فإنه تم – على الأرجح – إعادة زرع هؤلاء الإرهابيين في مناطق أخرى تمهيدا للإنقضاض عندما تصبح الظروف مؤاتية.
أما الخطر الاخر الذي سيزداد في المرحلة الجديدة فهو التحدي الفكري. فعندما يكون الإرهابيون منشغلين بالمواجهات العسكرية ، فإن المواجهات العقائدية تحتل مكانا ثانويا في إهتماماتهم ، أما عندما تضع المقارعات المسلحة أوزارها ، فإن خطر الصراعات الفكرية يزداد.وهذا ينبه إلى ضرورة إيلاء وسائل التواصل الإجتماعي مزيدا من الإهتمام لأنها أصبحت فضاءات يتمترس فيها الإرهابيون ويحاولون من خلالها إستقطاب الشباب وغسل أدمغتهم وكسبهم لصالح الفكر المتطرف.
وإذا كانت المؤسسات المعنية قد بذلت جهودا لابأس بها في المواجهة الفكرية مع الإرهابيين في المرحلة الماضية ، فإن الواجب يقضي الإستعداد لفصول أكثر ضراوة من المقارعة الفكرية مع التطرف والتكفير في مرحلة مابعد الرقة والموصل. أي أن إنتهاء المواجهات العسكرية سيعني إندلاع مرحلة جديدة من الحرب ضد التطرف والإرهاب أدواتها المنابر ووسائل التواصل الإجتماعي. ويجب أن تكون المؤسسات المعنية مستعدة لمواجهات مستعرة مع الفكر المنحرف في المرحلة المقبلة ، فهذه الجبهة من المعركة لن تخف ولكن ستزداد إستعارا.
وستعمل أطراف كبرى مثل روسيا وأميركا على تعزيز تحركها على الأرض في المنطقة لجني ثمار الدور الذي بذلته ، كما ستتحرك أطراف إقليمية مثل تركيا وإيران وإسرائيل لمحاولة إنتزاع جزء من الكعكة بما يحمله ذلك من أخطار التجزئة والتقسيم في دول المنطقة وحتى الإصطدام بين القوى الباحثة عن موطئ قدم أو تلك المنغمسة في إلتقاط الغنائم والمكاسب.
أما السمة المميزة الأخرى للمرحلة الجديدة فهو تسرب الإعتقاد بالنصر النهائي لدى أطراف إقليمية ودولية ستحاول أن تحصل على ثمن تصديها لداعش ودحرها ، وهذا يشكل الخطر الأكبر الذي ستواجهه المنطقة وهو يتمثل في غرور القوة لدى أمريكا وبعض القوى الأخرى التي تعتقد أن « إنتصارها « ضد داعش يؤهلها لفرض تسويات وصياغة ترتيبات « تاريخية» إنطلاقا من حقها المزعوم وقدرتها على إملاء شروطها ورؤيتها على الجميع. وهذا الإستقواء هو نموذج صارخ للغرور الذي تضيع معه حتى القدرة على قراءة ماجرى قراءة موضوعية دقيقة.
الثابت أن المنطقة ستبقى في حالة تشكل وصراع بين القوى الإقليمية والدولية لسنوت عديدة قادمة مما يستدعي إستمرار اليقظة والتحفز وعدم الإستسلام لإطمئنان زائف مبني على إخراج داعش من الرقة وقبلها الموصل.
لقد إنتهت مرحلة خطيرة من تاريخ المنطقة بسقوط الرقة والموصل ، وبدأت مرحلة جديدة تحمل في طياتها أخطارا أشد قد تهون معها التحديات التي فرضتها المرحلة الداعشية مما يضع تحديات جديدة على المؤسسات ، ويستوجب إستمرار وتعزيز الجاهزية والإستنفار.
الراي