أثناء مطالعتي كتاب "منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته" لمؤلفه الدكتور علي الوردي، استوقفني تحليل غريب للسبب الذي جعل الله يغض النظر عن تقدمة (قايين/قابيل) وقبول تقدمة هابيل.
التحليل الغريب أورده المؤلف نقلا عن كتاب "Study of history" لمؤلفه توينبي، إذ يقول: "إن في هذه القصة إشارة إلى أن أخلاق البداوة أفضل وأقرب إلى روح الله من أخلاق الحضارة. ولهذا تقبل الله قربان هابيل الراعي دون أخيه".
لربما كان توينبي مصيبا في تحليله، ولربما كان مخطئا، وأترك الحكم في ذلك للقارئ، بيد أنني سأدلي بدلوي في مسألة الأخلاق والمجتمع بدويا كان أم حضريا أم مريخيا!
مشكلة توينبي ومن لف لفه أنه يعلق على صدر الأخلاق "باجا" يشير إلى هويتها! وهذا ما يفعله الكثيرون منا هذه الأيام، خاصة أولئك الذين يربطون الأخلاق بالدين الذي يدينون به أو حتى بالمذهب الذي يذهبون به!
الأخلاق لا دين لها. فهي ليست حسنة أو سيئة لأنها مرتبطة بهذا الدين أو ذاك. الأخلاق ليست "أفضل" أو "أسوأ" لأنها بدوية أو حضرية أو مدنية كما قاس صاحبنا توينبي. الأخلاق إنسانية! أي أن الإنسان مكمن الأخلاق رفيعة كانت أم وضيعة.
هذا من جهة، من جهة أخرى، السبب الذي كان وراء قبول الله لتقدمة هابيل دون تقدمة أخيه، يعود بأغلب ظني إلى أن الأولى كانت نابعة من القلب أما الثانية فما كانت كذلك.
ودليلي في ذلك، قول التوراة في سفر التكوين: (4:4-5): "فنظر الرب إلى هابيل وتقدمته. وإلى قايين وتقدمته لم ينظر".
أي أن الله نظر أولا إلى الإنسان قبل التقدمة. وهو بذلك ينظر إلى باطنه لا إلى ظاهره، أي إلى قلبه، ودليلي في ذلك قول التوراة في نفس السفر (4: 6-7): "فقال الرب لقايين لم شق عليك ولم سقط وجهك. ألا إنك أحسنت تنال". أي ألا إنك تقربت لي بقلبك تنال؟
ويروي لنا إنجيل مرقس (12: 41-44) قصة ابن مريم وفلسي الأرملة.
على ما يبدو وحسبما فهمت فإن ابن مريم حينما "نظر إلى الأرملة وفلسيها وإلى الجمع ونحاسه لم ينظر" فإنه قد نظر إلى قلب المرء الكامن فيه نيته الباطنية والنابع منه فعله الظاهري، ودليلي في ذلك قول الإنجيل: نظر كيف يلقي الجمع" واللبيب بالإشارة يفهم.
والمصطفى يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرئ ما نوى)، أو كما قال.
ولعلني لا أخطئ فهم معنى الحديث إذا قلت إن الله سينظر إلى نية المرء في باطنه قبل عمله في ظاهره، وأن الله سيحدد أجر عمل المرء بمدى صفاء نيته أو عكرها.
ولعل أسمى المعاني وأجل الأفكار التي رمى إليها المصطفى من خلال حديثه سالف الذكر أن جعل الإنسانية إطارا عاما للأخلاق، وهوية جامعة لكل من النيات والأعمال؛ فهو قد قال: "لكل إمرئ" ولم يقل: "لكل مسلم".
وعندنا مثل شعبي يقول: "صفي النية ونام في البرية".
الله ينظر إلى قلب من يتقرب إليه بغض النظر عن الدين الذي يدين به أو المذهب الذي يذهب به أو المجتمع الذي كان يلعب في إحدى حاراته "سبع حجار"!