عندما يصدر المركز الوطني لحقوق الإنسان ممثلا بالمفوض العام د. موسى بريزات تصريحا ينتقد فيه أداء مجلس النواب الذي ينتظر عيد ميلاده الأول بعد أيام، فهو يشخص لحالة التراجع التي تصيب المجموع الشعبي والرسمي بشكل عام، فهو بوصفه لـ «النواب» بأنه الحلقة الأضعف بين السلطات الثلاث في إحداث التغييرات القانونية المطلوبة، ثم يطالب بتعديل نص المادة 71 من الدستور بما يضمن حق التقاضي على درجتين للطعن بصحة نيابة أعضاء المجلس، فهذا دليل واضح على التراجع المخيف لدور مجلس النواب في تحقيق الغايات المرجوة منه لحماية مؤسسة الدولة ومنظومة المجتمع الذي انتخب النواب، وهذا ما كنا نطالب به منذ زمن بخصوص حق الناخب في محاسبة النائب.
مجلس النواب ليس «حماّم تركي» يسعى اليه الأشخاص الذين تطاردهم الشبهات أو القضايا، فيغتسلون به ليخرجوا على الناس نظيفين من كل درن، ثم يجلس عضو ما عشرات السنين ليعرف بنفسه كنائب سابق ليتكسب، أو يتنافس آخرون ليحققوا مصالح خاصة ويستخدموا حصانتهم ليفلتوا من الحساب، أو يحققون صفقات كبرى على حساب القواعد الإنتخابية والأهم على حساب الوطن.. فها هو عام مضى ولا يعرف غالبية الناس أسماء أكثر من عشرين أو ثلاثين نائبا، بل بينهم من لم يسمع بهم أحد، وهذا ليس إساءة لمقام المجلس بل هو مطالبة بتفعيل دوره للدفاع عن حقوق المواطنين من خلال مراقبة أداء الحكومة وقراءة القوانين باختصاص وتمحيص ووعي سياسي، لا أن يكون الطبيب المريض.
قبيل إعلان تأسيس إمارة شرق الأردن وأثنائه وما بعده قامت مؤتمرات وطنية عديدة في العديد من مناطق الأردن، وكان الوعي السياسي عاليا رغم عدم وجود وسائل الإعلام من تلفزة وإذاعات و«سوشيل ميديا»، حتى الصحف كانت تصدر في فلسطين ودمشق، ومع هذا كان النهج واضحا والزعامات المحلية بارزة والرسائل واضحة تماما، وعندما بدأت الحركة الحزبية انخرطت الشخصيات الكبيرة من شيوخ العشائر وأعيان البلاد في تأسيس الأحزاب واعتناق الفكر القومي والوطني سعيا لخلق الدولة المنافسة والحاضنة للأجيال التي سترث فيما بعد حكم أمورها، وما نراه اليوم من أطلال المؤسسة الحزبية والإدارتين المدنية والعسكرية هي إرث البناة الأوائل المؤطر بالخبرة الإنجليزية العريقة.
اليوم للأسف تحول اتجاه القطار الى اتجاه العودة للخلف، وكأننا في قطار برأسين، انتهى عند محطته الأخيرة فعاد ليخترق الصحراء من جديد، والخارطة السياسية لا تنبئ عن تحسن في الفكر السياسي الذي يقع عليه مسؤولية الإرتقاء بالفكر الإجتماعي، حتى رأينا كيف يجتمع كوكبة من الشخصيات العامة التي تتأنق لغايات التصوير وهم عاجزون سياسيا وفكريا، ولا يستطيع وزير واحد أمضى دهرا في سلك الحكومات أن يحدثك عن إنجاز يمكنه الإشارة إليه، لـ«يكسر عين» المتشدقين والمتأففين أمثالنا، والجميع سرعان ما يتبرأون من المسؤولية عما وقع في زمنهم. عندما يطالب جلالة الملك من الجميع الإضطلاع بمسؤولياته فهو لا يدعو ترفا، بل هو يذكر الجميع بالأسس الأولى للمسؤولية الوظيفية، وسؤال الغياب الذي طرحه الملك في أكثر من مناسبة يطرحه العديد من الناقدين السياسيين ممن لا يتبوأون المناصب المرفهة، حتى وزراء الحكومة وأصحابها لا يستطيعون الدفاع عن قراراتهم أو لا يريدون، بل إن الحكومة ليس لها أي سياسة تسويقية لأي قرار أو إنجاز، وهذا مرجعه الى الضعف في الشخصيات العامة التي ترتجف أمام نشطاء الفيسبوك الذين يكتبون وهم متكئون في بيوتهم، فكيف يمكن مواجهة الأخطار إذا كنا جبناء؟
من يعرف أو يقرأ أو يسمع عن تاريخنا السياسي ورجالاته في عصر قيام الدولة وتطورها ثم نهوضها العملاق في سبعينات وثمانيات القرن المنصرم، ثم يرى كيف آلت الأمور اليوم وتصاغرت الى حد سخيف، سيعرف أن هناك خطأ ما قد وقع في وقت ما ومكان ما على الخارطة السياسية الأردنية، حيث تصاغرت أحلام الرجال وباتت المناصب والأموال هي الهدف الرئيس عند غالبية الجيل الجديد من رجال العصر الحديث، ومن الظلم أن نبقى نستجّر نهج وصفي التل مثلا عندما نتحدث عن الخلفاء من رجال الدولة، ولكن على الأقل يجب أن تتميز الشخصيات السياسية بشجاعتها ووعيها واستشرافها للمستقبل، والأهم أن لا تهرّم الدولة وأولها مجلس النواب.
الراي