قضيت 23 عاماً من عمري في الكويت، فبعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية قرر والدي رحمه الله الذي كان يقيم ويعمل في الكويت منذ الخمسينيات من القرن الماضي أن نلتحق به هناك، ففي هذا البلد الوديع والهادئ والذي فتح ذراعيه للشعب الفلسطيني بعد هزيمة يونيو (حزيران)، تشكلت ثقافة الشباب الفلسطيني التحررية والقومية من أجيال الستينات والسبعينيات والثمانينات، وكان هذا الشباب يرى في الكويت شعباً وحكومة رصيداً حيوياً في تعزيز دوره في الصراع مع إسرائيل، ولا حاجة في هذا المقال للخوض في تفاصيل ما قدمته الكويت للفلسطينيين من أدوات حضارية للصراع مع العدو الإسرائيلي على الصعد كافة من سياسية وتعليمية ومالية فقد كانت أدوات مؤثرة ومهمة ونوعية، لا ينكرها إلا الجاحدون.
تسبب الاحتلال العراقي للكويت في إدخال الثقافة القومية في محنة كبرى عنوانها الأبرز تعريف "العدو وتعريف الحليف" فقد دخل المصطلحان في منطقة رمادية خطيرة اسُتثمرت من قبل إيران وإسرائيل أبشع استثمار، وتكرست بسبب تحالفات تحرير الكويت ثقافة جديدة ألغت قيم ومبادئ القومية العربية القديمة، وانتشرت في الكويت وفي الخليج العربي وإلى حد كبير في مصر ثقافة الاستعداء للنضال الفلسطيني على خلفية الإشكال في فهم موقف الراحل ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية من الاحتلال العراقي للكويت، وكان هذا الاستعداء يشكل أكبر أداة لصالح أمريكا وإسرائيل وإيران في مهمة "تفسيخ" الصلة بين الدول الخليجية والقضية الفلسطينية، وتحديداً الكويت والتي كانت في عام 1987 عند انطلاقة الانتفاضة الأولى الداعم الأكبر لها على المستوى المادي والسياسي تماماً مثلما احتضنت انطلاقة الرصاصة الأولى للثورة الفلسطينية عام 1965 واحتضنت القيادات التاريخية لها.
كان مصطلح دول الضد جزءاً أساسياً من ثقافة "المحنة القومية" بعد احتلال الكويت، وكان بلد المنشأ لهذا المصطلح هو الكويت نفسها، وكان المقصود فيه هو الدول العربية التي لم تشارك قوات التحالف في دحر القوات العراقية وبشكل خاص الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية واليمن، وهو مصطلح ساهم مساهمة كبرى في نشر ثقافة الكراهية بين أبناء الشعب العربي، وزاد من حالة الاحتقان فيما بينها وعطل الكثير من المبادرات الشعبية من أجل ترميم العلاقات بين الكويت من جهة والأردن وفلسطين من جهة ثانية، وهو ما تنبه له سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد الصباح مبكراً عندما كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية وأعلن في تصريح جريء وتاريخي أن مصطلح دول الضد (مرفوض ولم يعد موجوداً)، وهو التصريح الذي أثار الجدل وعلى كل المستويات بين النخب والأوساط الشعبية في الكويت، وكان بمثابة إعلان البدء في ترميم "الفكرة القومية" في الكويت بعد عدة سنوات عجاف انتشرت فيها ثقافة "الانعزال القومي" والتي كادت أن تغتال تاريخ الكويت كمنارة قومية منذ أربعينيات القرن الماضي.
تسللت في ظل هذا المخاض القومي ومع بدء مؤتمر مدريد للسلام ظاهرة التطبيع مع إسرائيل وبخاصة بعد اتفاق أوسلو عام 1993 بين منظمة التحرير وإسرائيل، وبعد اتفاقية السلام الأردنية ـ الإسرائيلية عام 1994، وساهمت "الجزيرة" القطرية بثوريتها "الاستعراضية" ضد إسرائيل والسماح لمراسليها في الداخل الفلسطيني باستضافة شخصيات إسرائيلية بشكل يومي ومبرمج من خلق ثقافة "التطبيع" التي فشلت في مصر رغم كامب ديفيد وفشلت في الأردن رغم "وادي عربة" وفشلت في الضفة والقطاع رغم أوسلو. وكانت المفاجأة الكبرى والصادمة للكثيرين ممن تحاملوا على الكويت بسبب تفاعلات تحريرها من الاحتلال ولجوئها لواشنطن، أنها كانت عصية جداً في هذا الموضوع، وأعلن سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد الصباح في أكثر من مناسبة أن الكويت ستكون آخر دولة في العالم تتعامل وتعترف بإسرائيل، والسبب في ذلك كان الثقافة القومية المترسخة والراسخة في وجدان الكويت والكويتيين.
ربما ولجهل الكثيرين بهذا الجزء البسيط من تاريخ هذا البلد وعلاقته بالقضية الفلسطينية، وبسبب تشكل وتراكم صورة نمطية مجحفة وظالمة عن الشعب الكويتي صورته على أنه معاد لفلسطين وقضيتها، كان هذا التفاعل الكبير وغير المسبوق مع الموقف البطولي لمرزوق الغانم رئيس مجلس الأمة الكويتي في المؤتمر البرلماني الدولي في مدينة سان بطرسبورغ وطرده الوفد الإسرائيلي من هذا المؤتمر بعد خطاب مختصر وجزل حقر فيه الاحتلال الإسرائيلي وممثليه في المؤتمر وطردهم منه شر طردة.
من يعرف الكويت جيداً يجب أن لا يتفاجأ من موقف مرزوق الغانم فهو من جيل تربى على "حب فلسطين" و"كراهية إسرائيل"، وفي مناخ سياسي واقتصادي واجتماعي متعاف خال من الكثير من العقد التي تضج بها المجتمعات العربية الأخرى.
24: