الإيمان السليم المرتكز إلى العقل المستنير والذهن الواعي وامتلاك المنهج العلمي، يؤدي قطعا إلى انسياب الطمأنينة إلى النفس بهدوء وراحة بال تجمع بين العقل والوجدان بطريقة تحارب القلق والوساوس اللذين ينهشان النفس والجسد وياكلان الكبد، ومن لم يستطع تحصيل هذا المقصود على هذا النحو فقد أخطا المنهج وأخطا الفهم وتنكب الطريق الحق وأخطأ الفعل والسلوك، وحصد النتائج المرة.
لقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المسجد قبل وقت الصلاة في أحد الأيام فلحظ أحد أصحابه يقف صامتاً متصلباً في الشمس أمام المسجد، لا يكلم الناس ولا يتفاعل معهم ولا يستجيب لرد السلام، فسأل الرسول الصحابة: ما بال «أبو اسرائيل»؟! ويقصد الرجل الواقف، فقيل له: إن أبا اسرائيل نذر أن يقف بالشمس ولا يستظل ولا يجلس ولا يكلم الناس ولا يأكل ولا يشرب ..، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: مروهُ فليستظل وليجلس وليكلم الناس وليتم صومه.
هذا الأثر الوارد في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يلقي ضوءاً باهراً على طريقة فهم الإسلام وفهم مقاصده وغاياته، وطريقة تطبيقه في الحياة، فالإسلام جاء من أجل رفع الشقاء عن الناس ورفع الإضرار والأغلال والقيود التي تسبب تنغيص الحياة ونكد العيش من اجل ان تشيع الراحة والسكينة بين البشر وايجاد اسباب الحياة الوادعة المشبعة بالامن ودفء المودة، والانسجام مع النفس والكون والاستمتاع بالطيبات وأخد الزينة والبحث عن الجمال واختيار الرفق في الأمور، وتيسير الصعاب، والبعد عن كل ما يلحق الحرج ويسبب المشقة، امتثالاً لقول الله عز وجل في سورة طه: «طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى».
لقد تسللت مجموعة من الأفهام المنحرفة إلى بعض المتدينين، وتوهموا أن الدين مشقة، وأن حسن التدين يتأتى من خلال تعذيب النفس واعناتها، واختيار الطريق الأشد صعوبه من أجل التقرب إلى الله، ولكنهم في ذلك يتنكبون الطريق الصحيح، ويقعون في الجهل الفاحش ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وقد ورد في الحديث أن امرأة جاءت تستفتي الرسول في شأن أمها قائلة: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج ماشية، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: مريها فلتركب، فلا حاجة لله في شقائها.
ولذلك ينبغي القول لهؤولاء القوم الذين يجعلون من الدين والإيمان سباباً لشقائهم، وشقاء أهلهم وشقاء من حولهم، أن هذا الفعل ليس من الدين في شيء ولا حاجة لله في شقائهم، فكيف بمن يجعل من الدين سبباً لتفريق الأمة وتشتيت صفوفها، واشاعة الفتنة بين مكوناتها، بدلاً من أن يجعلوا الدين سبباً لوحدتها وطريقاً لقوتها، وإطاراً يجمع شتاتها ولملمة صفوفها.
إن الذين يحملون الدين بطريقة صحيحة يجعلونه مصدراً لإشاعة الحب بين الناس، ونشر ثقافة التسامح واللين والعفو والتغافر بين الخلائق، وتقليل شقة الخلاف بين المتخاصمين، وجمع القلوب على ما ينفهم ويحقق سعادتهم وأمنهم وتسهيل تشاركهم في صنع مجدهم وحماية مصالحهم، وامتلاك القدرة على رد العدوان ومنع العبث، عن طريق تبسيط الدين وتحبيب الإيمان إلى النفوس والقلوب.
الدستور