لا ندري الى أي مديات اقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية تقودنا هذه الحلقات المتناسلة للثورة العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية المذهلة. صدمات متتابعة ومتسارعة يتلقاها العقل والواقع البشري مع ايقاع تتابع وتسارع مخرجات تكنولوجيا الصناعة والاتصالات خلال السنه الواحدة .
تمرد لا غير ولا اقل هو ما يمكن ان نصف به ما نشهده اليوم من مخرجات ثورة التكنولوجيا على كل صعيد وبخاصة على صعيد الصناعة واكثر منها على صعيد الاتصالات . وليت الامر يتوقف على ما نراه اليوم وما نتوقعه مستقبلاً من هذه الثورة المتفجرة . إنه ترقب للامجهول الذي سيسفر عن تفجرها غداً وبعد غد . نلهث خلفها وتصدمنا المرة تلو المرة في مديات زمنية قصيرة ، ونظل نفتح افواهنا اندهاشاً ، وربما يأتي يوم نفتح فيه افواهنا ولا نعود نغلقها من فرط وتواصل اندهاشنا .
منذ نهاية القرن الماضي انطلقت التكنولوجيا من قمقمها العلمي وبدت كما لو انها فلتت من عقالها . فالتقدم الذي استغرق ألفية كاملة من الزمن في مطلع البشرية تم لاحقاً انجاز ما هو افضل منه في قرن فقط. ليتم بعد ذلك انجاز ما هو افضل اكثر في عقد من الزمن ، حتى صار في ايامنا يتم انجاز الافضل منه خلال سنة واحده . ولا نعلم ما هو المختصر الزمني للمنجز التكنولوجي بعد 20 سنة من الان . ولسوف نستهلك كامل خيالنا من غير ما فائدة ان خطر ببالنا ان نفكر فيما يمكن ان ترسو عليه الحال بعد خمسين سنة حتى لا نتجاسر ونقول بعد قرن من الزمن .
في الاتصالات انتهت ثورة التكنولوجيا منذ اختراع الآلة الطابعة عام 1439 وحتى يومنا هذا الى خدمة الانترنت الرقمية التي باتت تربط العالم بشبكة عنكبوتية فضائية وتدمج قنوات الاتصال السمعي والبصري الشامل المسجل والمباشر في جهاز واحد بحجم الكف .
اما في الصناعة حيث ابتدأت ثورتها التكنولوجية الاولى بالإنتاج الآلي مع اختراع الآلة البخارية عام 1760 م ، فقد وصلت بها ثورتها الرابعة مطلع تسعينات القرن الماضي الى التصنيع رقمياً حيث تقوم المؤسسات الصناعية اليوم على بنية تقنية رقمية متطورة من خلال تجميع واستخدام برمجيات ذكية وخدمات
الانترنت وطباعة ثلاثية الابعاد وروبوتات ليتحول الانتاج من ( الانتاج الكبير) الى (الانتاج الشامل) المرقمن وبالطباعة الثلاثية الابعاد واستخدام الروبوتات .
تتطور العلوم البحتة ( فيزياء ، رياضيات ، كيمياء ، احياء ، وراثه ) ، وتظهر تطبيقاتها عبر تجليات التكنولوجيا في مجالات الطب والهندسة والصناعة والزراعة والنقل والاتصالات ، ليجد كل ذلك صداه عميقاً في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والقانون والإدارة والاعلام .
مطلع هذا العام وصل الينا جديد تمرد ثورة التكنولوجيا بإبداع قدمه لنا تحت اسم الذكاء الصناعي . وهو نقل لطريقة عمل الدماغ البشري الى الجهاز الآلي ليتمكن من التفكير واكتساب المعرفة والادراك من تلقاء نفسه . انه أحياء للآلة يحولها الى كائن واع . سوف تصبح الآلة هي المهندس والطبيب والمحامي وهي الخبير والمستشار الاقتصادي والاجتماعي والعلمي .
هل يمكن ان تمتد يد التكنولوجيا الى علم الفكر والتفكير (الفلسفة) كعلم للبحث عن الحقيقة وتفلح كما افلحت في العلوم الاخرى وتطبيقاتها ؟ وهل يفلح الذكاء الصناعي بدفع الآلة للتفكير نيابة عن العقل البشري في بحثه عن الحقائق الكونية والبشرية؟ ربما كان ذلك موضع ترحيب عظيم بأمل ان تقدم لنا الآلة الحقائق بصورة مختلفة عما قدمه لنا العقل البشري وعلى نحو لم نألفه من قبل.