لا تسمح تقاليد العمل الصحفي بوضع صورة مع المقال اليومي، ولو سمحت، لوضعت مع هذا المقال صورة التقطتها بالأمس لكلمة كتبت على أحد جدران البيوت، ترشد السكان إلى مكان وضع القمامة كما يبدو، والكلمة كتبت هكذا: «قوماما» وللوهلة الأولى عندما قرأتها، حسبت أنها تعني شيئا له علاقة بالأم: «ماما» ولكن ما علاقة «قو» التي تسبقها؟ ولم تطل حيرتي كثيرا، حينما شاهدت قرب الحائط كومة من الأكياس السوداء التي تحوي فضلات سكان العمارة!
قوماما، تصلح عنوانا لبكائية دامية عن الحال الذي تردت إليه اللغة العربية، ليس على أيدي العوام فقط، بل على ايدي النخب أيضا، وحتى الكتاب الكبار منهم والصغار على حد سواء، ولو قيض لأحد الذين يستغربون كلامنا هذا أن يزور غرفة تحرير اي دار نشر، أو صحيفة، لهاله عدد ونوعية الأخطاء اللغوية التي يتعين على «المدقق اللغوي» إصلاحها، قبل أن ترى المقالة أو القصة أو حتى الشعر، النور والنشر على الملأ!
كارثة الأخطاء اللغوية، إملائية كانت أو نحوية، أو غيرها، غدت من الفحش بحيث دق العقلاء ناقوس الخطر، خاصة وأنها أصابت المسؤولين عن التعليم في بلادنا، ومن أطرف ما حصل في هذا الباب، ما نشره أحد المعلمين العرب عن وزير التعليم في بلاده، حيث اكتشف المعلم عدة أخطاء لغوية، في رسالة قام الوزير بكتابتها ووجهها للجمهور، المعلم نشر الرسالة والأخطاء الموجودة فيها على إحدى منصات التواصل الاجتماعي، وعلق بالخط الأحمر على ما كتبه الوزير، ليمنحه 3 درجات من 10!
ويكفي أن تقرأ بعض ما يكتبه رواد منصات التواصل الاجتماعي تلك، حتى المشهورين منهم، والمعروفين ككتاب وشعراء، فضلا عن الهواة، لتدرك عمق المشكلة، وربما يغمى عليك من الضحك، لمستوى الفحش والطرافة في الأخطاء، وهي لا تقل طرافة عن «القوماما» تلك!
قبل سنوات كتب الصديق الناقد فخري صالح مقالة في الدستور، عن شكوى لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بالبوكر العربية) من كثرة الأخطاء اللغوية التي صادفتها لجنة التحكيم في الروايات التي تقدمت لنيل الجائزة ذلك العام، وخلص في معرض تشخيصه للمشكلة، إلى أنها عائدة لانحطاط التعليم في الوطن العربي، وضعف التعليم اللغوي في المراحل الأساسية والثانوية والجامعات. وهي أمور تحتاج إلى وقفات وبرامج لتطوير التعليم، وإعادة نظر في مستوى تأهيل المعلمين وتدريبهم بحيث نصلح ما أفسدته الإدارات التعليمية التي وصلت إلى مواقعها لأسباب لا تتصل بالكفاءة والألمعية، بل لصلتها بالسلطة التي خربت المجتمعات والتعليم والسياسة، وأتت على اليابس قبل الأخضر. ولهذا فإن المطالبين بالديمقراطية، واجتثاث الفساد، ومحاكمة الفاسدين، عليهم –كما يقول الصديق- أن يضيفوا إلى مطالبهم المشروعة الضرورية إصلاح التعليم؛ لأنه أساس متين يجنب الدول الكثير من الهزات والاضطرابات التي تعصف بالمجتمعات الحديثة. ولعل اللغة هي القناة التي تمر بها المعارف جميعها، وسلامة هذه اللغة ضرورية لكي يحصل الفهم ولا يتم الخلط في المعاني.
أشاطر الصديق فخري صالح الرأي، وإن كنت أعتقد أن نداءه وكل النداءات المشابهة ستكون في واد غير ذي صدى، ناهيك عن الزرع؛ لأن مستوى الانهيار الذي نعيشه لم يقف عند حد، وإن كانت اللغة إحدى مظاهره الصغيرة، والصغيرة جدا، فحجم «القوماما» في حياتنا أصبح أكبر من أي توقع، ولعل من أبشعها وأكثرها نتنا وأذى، تلك الـ «قوماما» التي تمشي على رجلين!
الدستور