مظاهر سيادة القانون ودورها في اضفاء المصداقية على الديمقراطيةالدكتور موسى الرحامنة
15-10-2017 03:25 PM
من جملة القضايا المطروحة في الفقه الدستوري، قضية " نشأة الدولة " وكيف وجدت بمفهومها العام، وما هي الظروف التاريخية التي ألجأت الأفراد إلى هذه الفكرة السياسية التي نظمت حياتهم بعد قرون من الفوضى والجشع والطمع ، ومن ثم تصدرت نظريات تتحدث عن فلسفة وجود الدولة، كنظرية :العقد الاجتماعي والماركسية ونظرية التطور التاريخي. ان مظاهر الانتخابات الصورية المزورة مسبقاً، وغيرها من الاستعراضات السياسية والدستورية قد أطلق عليها العلامة "موريس دوفارجي" أستاذ القانون الدستوري بجامعة باريس في ستينات القرن الماضي مصطلح : (ديمقراطية الواجهة ) ومن هنا، درجت العادة أن تصاحب كلمة الديمقراطية مصطلح سيادة الـقانون، أو ما يقابله في الفكر السياسي "دولة القانون" أو ما يصطلح عليه الفكر الانجلوساكسوني بـ Rule of Law. ولكن ما هي مظاهر سيادة القانون التي تضفي المصداقية للديمقراطية المعلنة من طرف أي نظام سياسي على وجه الأرض؟ وهنا، لا بد أن نعرِّج على التاريخ للوقوف على أهم الأدوات القانونية التي سادت الأنظمة السياسية، والمواقف التاريخية للزعماء السياسيين الذين صنعوا ديمقراطيات بلدانهم، ووقفوا عند حدود قوانينهم ولم يتجرؤوا على مخالفتها. فمثلاً، كان من أسرار استمرار الامبراطورية الرومانية عبر التاريخ لقرون خلت من الزمن، هو وجود نظام قانوني صارم، لا سيما ما تعلَّق بالقانون الخاص، اذ كانت المسؤولية القانونية موضوعية أي أن إصلاح الضرر لا بد منه سواء كان الخطأ عن قصد أو عن غير قصد، وهذا ما جعل شعوب الإمبراطورية تحترم القانون لفترة طويلة من الزمن، ولعل هذا هو ما دفع بالعالم الألماني "أيرنك" إلى القول: "إن روما فتحت العالم ثلاث مرات : المرة الأولى بجيشها، والثانية بدينها (المسيحية)، والثالثة بقانونها. وكان الفتح الأخير أكثرها ضياءاً وأبعدها مدى". ولعل أهم ميزة تميز بها القانون العام الروماني أن مصطلحاته لا زالت تعيش الى يومنا هذا في الفكر القانوني والدساتير الحديثة. ويروي جون ماري كارباس في كتابه "تاريخ المسؤولية الجنائية"، أنه وعقب انهيار الإمبراطورية الرومانية على يد القبائل الجرمانية، عمَّ الظلم والنهب والقتل والسرقة وشاعت الفوضى في سائر ارجاء أوروبا. مما حدا بالملك الفرنسي ذو الأصول الألمانية "شارل مان" أن يهب لإرساء قواعد قانونية صارمة على مستوى مملكته وذلك في القرن الثامن الميلادي من خلال لجنة كلَّفها لهذه الغاية، حيث توصلت اللجنة إلى إصدار قانون يقضي بحرق كل من تخول له نفسه حتى سرقة بيضة دجاجة، فما بالك بالذي يتعدى على مال غيره او المال العام، أو يقتل نفسا بغير حق، وبالفعل أضرمت النار في أكثر من مجرم في الساحات العامة، فتحقق الردع العام وبه تراجعت الجريمة إلى أدنى مستوياتها، فعم الأمن أرجاء البلاد، وكان لذلك القانون وقتها دور كبير في ترسيخ فكرة احترام القانون وسيادته لدى الشعب، وتم التأسيس لثقافة قانونية لا تزال آثارها سائدة في الضمير الجمعي الأوروبي إلى هذا اليوم . وهذا ايضاً،"الملك العالم" البيزنطي: "جوستنين " في القرن السادس ميلادي حين جمع ما بقي من القانون الروماني وجعله في موسوعة قانونية كانت المصدر الأول لتدريس القانون بأول الجامعات الأوروبية في "بولونيا" الايطالية وذلك أثناء القرن الثالث عشر، هذا القرن الذي أنجب القس الفيلسوف "سان توما لاكويني" الذي وحد بين الفكر الكنسي الديني والفكر القانوني، وميز بين الخطأ والخطيئة، وقال عبارته الشهيرة التي جعلت من العدالة الإنسانية امتدادا للعدالة الربانية من أجل تحقيق العدل : "العدالة الإنسانية هي المرحلة الأخيرة من العدالة الربانية" "" ومن آثار هذا الفيلسوف أنه أعطى للقانون قيمة عقلية خالصة، حين قال: "القانـون تشريـع يأمـر بـه العقـل" وفي هذه الفترة من القرن الثالث عشر بدأ التمييز بين المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية، ليأتي العلامة "جون بودان" بعد ثلاث قرون - أي القرن السادس عشر- بموسوعته القانونية الشهيرة والتي أصبحت مرجعا أساسيا في القانون العام وفكرة الدولة. وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر خرج علينا صاحب كتاب "من روح القوانين" "مونتسكيو" الذي حمل في ثناياه ميلاد فكرة أساسية كانت بمثابة قطب الرحى للقانون العام ودولة القانون، هذه الفكرة هي "الفصل بين السلطات" لتضع حداً من قرون الاقطاع والاستبداد، حيث أن الملك الذي كان يمثل التنفيذ والتشريع أصبح غير ملزم بإصدار القوانين، بل هو ملزم باحترامها وعليه واجب طاعتها، ليفقد ملكه فيما بعد وذلك بقيام الثورة الفرنسية سنة 1789 التي اعلنت عن مولد أول جمهورية فرنسية بالمعنى الدستوري للكلمة، ويعلن عن ميثاق حقوق الإنسان والمواطن، وينتخب على أول دستور عصري، فيشهد العالم وقتها بداية فكر قانوني جديد يحاسب من خلاله المشرع والمنفذ عن طريق قضاء مستقل إلى حد كبير. وبالرغم من بعض الانحرافات التي وقعت بالمخالفة لمبادىء الثورة، إلا أن فكرة "المسؤولية السياسية" تبلورت إلى حد كبير، وصارت عرفا حقيقيا في كامل الدول العظمى، خاصة في البرلمان البريطاني الذي دفع أكثر من حكومة للاستقالة أو على الأقل تغيير نهجها السياسي بما يتماشى ومصالح الشعب. واليوم وبعد مخاضات القرن العشرين وما تلاه، من المستصوب أن نعرف كيف كان القانون محترماً وسيادياً في الدول التي تحترم نفسها وتحترم شعوبها. فها هو "ونستون تشرتشل" رئيس وزراء بريطانيا الذي حرّر العالم من قبضة النازيين يقف أمام ملكة بريطانيا سنة 1957 وبيده استقالته بعد الهزيمته التي مُنيَ بها في الانتخابات وقتها، لأن الشعب صاحب السيادة الحقيقية خاطبه قائلا : " شكرا لك على ما فعلت لبريطانيا لقد كنت حقا آلة قوية حطّمت الاستعمار النازي، أما الآن فإننا بحاجة إلى رافعة نبني بها الوطن". وليس ببعيد عن بريطانيا، هذا هو الجنرال "ديغول" الرئيس الفرنسي الذي أنقذ بلاده مرتين - أثناء الحرب العالمية الثانية وأثناء حرب الجزائر - وهو صاحب دستور الجمهورية الخامسة الشهيرة، هذا الجنرال وأثناء أحداث باريس 1968 فهم أن نسبة من شباب الأمة الفرنسية غير راغبة فيه، فقدم استقالته مباشرة بعد استفتاء سنة 1969. ومن وراء المحيط، في البيت الأبيض ونزيله في فترة السبعينات الرئيس "نيكسون" يقدم إستقالته بعد فضيحة Water Gate التي فجرتها مقالة صحفية واحدة وقتها . ولنعود إلى فرنسا وبالضبط سنة 2007، عشية انتهاء آخر انتخابات رئاسية فرنسية يخرج الرئيس الجديد "نيكولا ساركوزي" مخاطبا الشعب الذي اختاره فيقول: "أعلن أنني لست الرئيس الشرفي للجهاز القضائي، لأنني أمثل الجهاز التنفيذي لا أكثر ولا أقل، مالي والقضاء ؟ فالقضاء له أهله". هذه الأمثلة التي اوردناها تباعاً، فيها تبيان لمدى احترام القانون، ورأي الشعب على مستوى أعلى هرم السلطة في البلاد المتقدمة، فما هو استنتاج سلوكيات باقي المسئولين من وزراء ورؤساء مقاطعات وبلديات ومديرين، اذا كانت هذ هي سلوكيات من يتربعون على الهرم . إذاً، هذه الثقافة القانونية والمدنية لم تأت من فراغ، وإنما تكونت مع مرور الزمن وتكونت عبر أجيال وأجيال وأوجدتها إرادة سياسية، وآليات حقيقية، بدءاً من الدستور وانتهاءاً عند القرارات الشهيرة للمحاكم والتي أصبحت فيما بعد قوانين متوجبة الاحترام، لأن القاضي في بلاد العالم المتقدم ليس قارئا للقانون وحسب وإنما صانع له . وفي قراءة لبعض المواد الدستورية ذات المصداقية، نستشف مدى نجاعة القوانين في بلاد العالم المتقدم، وكيف أن عباراتها واضحة وصريحة لا تحتمل التأويل أو القراءة المبهمة، أو أنها مجرد نصوص ديكورية، فعلى سبيل المثال وليس الحصر: تنص المادة 84 من القانون الأساسي لليونان : "الحكومة واجب عليها أن تتحصل على ثقة نواب الغرفة الأولى"، أمـا المادة 20 من الدستور الفرنسي في فقرة من فقراتها فهي تقول: "الحكومة مسئولة أمام البرلمان". أما مساءلة الحكومة في البرلمان البريطاني رغم غياب دستور مكتوب فإنها تعد من أبرز المسائلات البرلمانية على الإطلاق والتي تجعل من رؤساء الحكومات البريطانية لا يغمض لهم جفن. ومن جهة أخرى البرلمان الألماني يملك صلاحية فتح تحقيق اتجاه قضية ما تخص تصرفات الحكومة ويكون ذلك في جلسة علنية وفق المادة 44 في فقرتها الأولى من القانون الأساسي الألماني. وقد يطرح السؤال عن كفاءة الكثير من دساتير دول التخلف التي تتضمن مواد أشبه بمحتوى المواد التي ذكرناها، فيما يخص المسؤولية السياسية للحكومات الغربية؟ والجواب على هذا السؤال لخصه عمدة ولاية نيويورك سنة1908 السيد "شارل فانس هوكز" أثناء خطاب رسمي قال فيه : " نحن تحت إمرة دستور، لكن الدستور يكون دستورا حقا حين يقر بوجوده القضاة ويعملون به وإلا فإنه عبارة عن حروف ميتة" وذلك في إشارة واضحة إلى مدى فعالية القضاء واستقلاليته ودوره في الحفاظ على هيئة الدستور وتجسيد محتواه. ولم يزل التاريخ يحوي في صفحاته العديد من القرارات الهامة والمصيرية، التي صنعت قوانين الدول المتقدمة، وأرست قواعد سيادة القانون بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومن أهم هذه القرارات نجد: قرار المحكمة العليا الأمريكية سنة 1803 في قضية (ماربوري وماديسون) والذي يقضي بأنه بإمكان أي مواطن أن يطعن في دستورية قانون ما مس بمصلحته الخاصة وما على القاضي المستقضى إلا أن يفصل في القضية بحكم يراه مناسبا. وفي فرنسا أسهمت المحاكم في خلق نوع جديد من القضاء ألا وهو القضاء الإداري، وذلك بعد قرار "بلونكو" الشهير سنة 1873 والذي يعتبر القرار المؤسس لمسؤولية الإدارة أمام القضاء. أما على مستوى الاتحاد الأوروبي فإن قرار "فرانكوفيتش" الذي أصدرته محكمة العدل الأوروبية في فترة التسعينات من القرن العشرين يعتبر القرار المؤسس لمسؤولية الدولة في إطار الاتحاد الأوروبي وإذا تحدثنا عن الرقابة على دستورية القوانين فإنها صارت من بديهيات الدول الديمقراطية فعلا، وعلى العموم، فإن هذه الرقابة تأخذ شكلين لا ثالث لهما، الشكل الأول هو الرقابة القضائية، وذلك بإنشاء محكمة خاصة بمراقبة مدى مطابقة القوانين للدساتير، وهذه الفكرة جاء بها دستور النمسا سنة 1920 وذلك بعد أن هندسه وصممه فيلسوف القانون " هانس كلسن"، وبالتالي فإن أول محكمة لمراقبة دستورية القوانين كانت بالنمسا ثم تلتها ايرلندا كأول دولة انجلوساكسونية تبادر بإنشاء قضاء خاص بالرقابة الدستورية ثم تلتها إيطاليا سنة 1947 فألمانيا سنة 1949 والبرتغال سنة 1976 واسبانيا سنة 1978 . أما الشكل الثاني لهذه الرقابة يتمثل في الرقابة السياسية وذلك عن طريق مجلس دستوري على شاكلة المجلس الدستوري الفرنسي الذي أقر في 23 أغسطس 1985 أن "القانون المصوت عليه من طرف البرلمان لا يعبر عن الإرادة العامة للشعب إلا في إطار احترام الدستور" وكان هذا القرار بمثابة ثورة على السيادة المطلقة للقانون حيث أصبح لا يكفي أن يصوت أعضاء البرلمان ممثلي الشعب بل يجب أن لا تكون القوانين منحرفة عن الدستور وتخالفه مثلما هي أفكار اليمين المتطرف. أما الولايات المتحدة الأمريكية فرغم أن دستورها العتيد لم يتطرق للرقابة على دستورية القوانين لا من حيث الرقابة القضائية ولا من حيث الرقابة السياسية، إلا أن الدستور في مادته الثالثة أوكل السلطة القضائية إلى محكمة عليا لها كامل الصلاحيات فهي القضاء العادي والقضاء الإداري والقضاء الدستوري . وقد أثبتت هذه المحكمة تحكّمها في زمام دولة عظمى بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما أذهل احد المفكرين وهو توكوفيل اليكس الذي زارها ما بين سنة 1830و1835 وقال في كتابه الشهير «عن الديمقراطية الأمريكية »: "لا أظن أن هناك لحد الآن دولة أسست للسلطة القضائية على منوال الولايات المتحدة الأمريكية" ، وقال أيضا: " إن السلطة القضائية في الولايات المتحدة الأمريكية لا تشبه إلا نفسها ". وهذا ما جعلها تؤسس لثقافة قانونية متميزة للمجتمع الأمريكي الذي أصبح يعـد أكثر من (800.000) ثمانمائة ألف محامي وهو الرقم الأكبر في العالم . وبعد أن عرّجنا على كامل هذه المعطيات، التي جعلت من القانون سيّدا في البلاد المتقدمة، يبقى أن نشير إلى ظاهرة تغيير الحكومات في نفس البلاد فمهما كانت طرق التغيير سواء عن طريق انتهاء المدة أو الإقالة أو الاستقالة أو أي طارئ آخر، فإن التغيير يأتي من دون إراقة للدماء وهذا هو معيار الديمقراطية الحقيقية حسب رأي الفيلسوف "كارل بوبر" الذي يقول: " نكون أمام حالة نظام ديمقراطي إذا تغيرت الحكومات من دون إراقة للدماء". ومن حسن الحظ، فإنه على مستوى عالمنا العربي، فان الكثير من الدول تتغير حكوماتها دون إراقة للدماء وهذا يعتبر مؤشر إيجابي على حضور الديمقراطية في المشهد السياسي العربي، رغم كونها ديمقراطية عرجاء لأنها لم تكتمل بالسيادة الكاملة للقانون والاستقلال النهائي للقضاء .
المراجع : (1) محاضرات في فلسفة حقوق الإنسان للدكتور: وجدي سبت جامعة لاروشال – فرنسا- . (2) من كتاب المسؤولية المدنية للدكتور زهدي يكن، أستاذ القانون المدني بالجامعة اللبنانية سابقا. (3) محاضرات القانون الدستوري للدكتور "أحمد بن محمد" جامعة باتنة - الجزائر- سنة 2000. (4) من كتاب فكرة القانون للدكتور: "دينيس لويد"، ترجمة سليم الصويص - سلسلة عالم المعرفة الكونية. [3:20 PM, 10/15/2017] +962 7 7959 0820: |
الاسم : * | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : * |
بقي لك 500 حرف
|
رمز التحقق : |
تحديث الرمز
أكتب الرمز :
|
برمجة واستضافة