حبّ قد يرمينا في الضياع أو في الجُبّ!
ماهر سلامة
11-10-2017 01:51 PM
لعل ما أراد كاتب رواية "حتى مطلع الشغف" موسى برهومه قوله، هو أنّ الحب رحلة، رغم امتلائها بالملابسات، نجدد بها أنفسنا، لنفتح آفاقاً جديدة لأحلامنا، تتبدد فيها أوهامنا، والوصول إلى سلام منشود، أو استسلام مفروض. من خلال قصة حب أو عشق تبحث فيها البطلة عن حبيبها الاْول، يقدم الكاتب سيناريوهات احتمالية متعددة، ليقول لنا إن متابعة الشغف تعلّمنا على الأغلب.
لكل منا طريق نشأة، وظروف صاغتنا، وأحداث شكّلتنا. كل ذلك أسهم في انبعاثات بركانية لا تتوقف في دواخلنا، غير مسيطر عليها، تقضّ مضاجعنا، وتقودنا نحو التيه الشخصي إلى ما لانهاية، أو التعثر بجائزة في هذا الطريق.
ونتساءل في أثناء الطريق: هل غباش الرؤية والرؤيا هما سبب شعورنا المأزوم بأننا ضحايا! وهل هذا الشعور يقودنا إلى النجاح والرضا فنسميه شغفاً، لذا نتحرك بعصابية لتحقيق ذواتنا! لكن لماذا نشعر عميقاً بالفشل إذا كان هذا صحيحاً؟
وهل أي شغف هو بمثابة مفاعل يتفجر لإيجاد ذواتنا؟ وتباعاً هل نذهب لتزكية الشغف بطاقة من الأفكار ذريّة التكوين تنشطر فتولد طاقة أخرى عنيدة تقودنا إما إلى أمل "موجب" أو ضياع "سالب"؟
الرواية (الصادرة عن المركز الثقافي للكتاب في بيروت 2017) بحثٌ بديع في الشخصية القلقة، التي امتهنت الضياع لتهدئة روْعها من فراغ دفين، ولعل طريقتها التعويضية في ملئه زادها ضياعاً، فالفراغ لا يجلب إلا فراغاً اذا ملأته بطاقة غريبة لا يعرفها، فالسلب يعزز السلب؛ لأنه أقرب إليه. قد يخدعنا السلب أحياناً حينما يبدو إيجابياً، وهنا مربط الرواية، وهو ما قد يقود إلى الاستسلام أو إلى السلام.
وكأنّ الرواية تقول إن الفراغ سالب ساكن وبليد، لذا هو دائم الحركة للبحث عن موجب، موجب يقدم المعاني العميقة التي تشفي غليله. قد يكون هذا الموجب عصياً، لأنه نشط وصعب المنال، من هنا قد نخوض غمار طريق محفوف بالبحث المضنى عنه، وقد يتسلل سلب جديد لهذا الفراغ لوفرته. وفي الحالتين هناك آلام، واحدة تطورية، وأخرى ارتجاعية، لذا علينا أن نختار، والأهم كيف نختار، والمغامرة تتجلى هنا عبر موازنة لعبة الإصرار والمثابرة.
ممارسة حريتنا المقدسة للاختيار في أية مرحلة رغم ثمنها الباهظ، هو كنه الرواية، فمتى تكون حرية الاختيار عبثاً، ومتى تكون إبداعاً. من الصعب تجاوز قوانين الكون المحرّكة لنا كأفراد، والحصول على مكافأة، كما أنه من الصعب المفاضلة بين ذكاءاتنا الروحية والعاطفية والعقلية والجسدية للحصول على جائزة الأوسكار في المغامرة، فالأصل أن تعمل الذكاءات معاً لإيجاد الطريق المفيد سواء أكانت المغامرة سلبية أم ايجابية في نتائجها. وهذا ما خلصت إليه رواية "حتى مطلع الشغف"، ومن هنا انطلق معنى اسم الرواية حسب قناعتي.
نعم قد نجد كل المبررات لمتعة المغامرة والانغماس في ملذاتها، إلا أنّ سؤالاً يلاحقنا على الدوام: هل أسير في الطريق المفيد؟ فرحلة المغامرة غير المسلحة بالحد الأدنى للسلام الذاتي هي انفلات غير مضمون النتائج، وعلينا قبول كل الندوب التي تصيبنا في العمق؟ ولكن هل هذه هي الندوب التي قد توصلنا يوماً إلى الحكمة...أو الخير؟
كما يتوارد إلى ذهننا سؤال آخر: كيف تقدم لنا رواية قصة حب سريالي وتتوقع أن تخلص بمعانٍ؟ وهل الثمن أي المعاني تساوي هذا الجهد والضياع؟ هل ستنضجنا رحلة كهذه، أم ستشعرنا بالانكسار والقبول بالواقع؟
سؤال آخر تفرضه علينا الرواية: كيف تكون المغامرة والبحث عن الشغف طريقاً للخيبات، وطريقاً للنجاحات؟
حاول الكاتب في روايته "حتى مطلع الشغف" أن يرفد الرواية بمحصّنات وإسقاطات فكرية وجمالية تنظم سياق ترامي أطراف التفاصيل، في محاولة مبدعة لاستنباط الخلاصات التجريبية لكل فكرة وكل معنى في طريق المغامرة الجامحة، تاركاً للقارئ حرية الاستنتاج. ولعل هذا من أهم أسرار الرواية الذكية.
لغة الرواية ليست رصينة فحسب، بل دمجت بين النثر والشعر والسرد، في توليفة تتمتع بلياقة رائعة في التعبير والإقناع والدخول إلى أية حالة أرادها الكاتب للقارئ.
الرواية تفوح بنكهة الأدب اللاتيني، فقد قدمت أسلوباً مشوّقاً متماسكاً ومحترفاً من خلال نظم وتسلسل أحداثها. في الحقيقة حملت الرواية حرفة السيناريو، إذ يستطيع أي مخرج سينمائي أو تلفزيوني تناول هذه الرواية كعمل درامي من الطراز الأول. إن الجانب الفكري الرصين الذي أخفاه الكاتب في متن الرواية، يؤهل الرواية لاستحقاقات جوائز كثيرة، كما يؤهلها لأن تكون عملاً مترجماً إلى لغات متعددة، فالغرب سوف يفهمها وفي الوقت نفسه سيحترم الكاتب الطليعي في تناول فكرة الرواية وكيفية تطويرها إلى كرة ثلج سرعان ما تتبخر في نهاية الرواية، وهذه فكرة النهايات المفتوحة الذكية.
في الحب ضياع! لكنه ضياع إيجابي، يعلّم، يعلّمنا العطاء، لذا لا يمكن فهم الحب. لكل قصته، لكل حكايته، لكل نتائجه واستخلاصاته، وقد تشبه الحكايات بعضها، لكنها في الحقيقة متباعدة بقدر تباعد أسرار الذات عن الذات الاْخرى. الحب هو سر فهم الذات والإمساك بجمالها وإبداعها الكامن.
شكراً لهذه النتيجة المتوقعة لكاتب معروف في كل شيء إلا الرواية، وها هو يقتحم بنجاح بل بتفوق هذا الباب الكوني الكبير الذي يلامس به أسئلة الوجود في الحب والحرب والسلام.
"حتى مطلع الشغف" رواية مثقفة بامتياز.